فصل : الخصم الغائب عن بلد القاضي .
وإن
كان الخصم المطلوب غائبا عن بلد القاضي : لم يخل أن يكون في عمله ، أو في غير عمله .
فإن كان في غير عمله ، لم يكن له إحضاره ؛ لأنه لا ولاية له عليه .
وجاز له أن يسمع الدعوى والبينة عليه ، ليكاتب به قاضي البلد الذي فيه المطلوب .
وله في مكاتبته حالتان :
إحداهما : أن يكاتبه بسماع البينة ، ليتولى المكتوب إليه الحكم بها على المطلوب ، فهذا جائز عند من يرى القضاء على الغائب وعند من لا يراه .
والحال الثانية : أن يحكم بالبينة بعد سماعها ويكاتب القاضي بحكمه ، فهذا جائز عندنا وعند من يرى القضاء على الغائب ، ولا يجوز عند
أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب .
وعليه في هذا القضاء على الغائب أن لا يحكم له بعد سماع البينة إلا بعد إحلافه بالله إن كان الحق في ذمة : أنه ما قبضه ، ولا شيئا منه ولا برئ إليه منه ولا من شيء منه ، وإن كان الحق في عين قائمة أحلفه أن ملكه عليها باق ما زال عنها ولا عن شيء منها .
[ ص: 304 ] وإنما أحلفه قبل الحكم : لأن المحكوم عليه لو كان حاضرا لجاز أن يدعي ذلك ، فيستحق اليمين ، فلم يكن له إمضاء الحكم مع هذا الاحتمال ، إلا بعد الاحتياط فيه .
وذهب بعض أصحابنا وهو
الحسين بن علي الكرابيسي إلى أن القاضي يطالب المحكوم له بكفيل ، لجواز أن يتجدد ما يوجب بطلان الحكم فيؤخذ به الكفيل .
وذهب جمهور أصحابنا وهو قول أكثر الفقهاء إلى أن مطالبته بالكفيل لا تجب لأمرين :
أحدهما : أنها كفالة بغير مستحق .
والثاني : أن قضاءه على الغائب كقضائه على الميت والصبي ، وليس يلزم أخذ الكفالة في القضاء عليهما ، كذلك لا تلزم في القضاء على الغائب .
ويشترط القاضي في حكمه على الغائب أنه قد جعله على حق وحجة إن كانت له لئلا يقتضي إطلاق حكمه عليه إبطال حججه وتصرفه .
وإن
كان الخصم المطلوب غائبا في إعمال هذا القاضي : لم يخل أن يكون له فيه نائب مرتب للأحكام عموما أو خصوصا .
فإن كان له نائب في بلد الغائب لم يلزمه إحضاره ، وكان بالخيار في الأصلح للخصم من إنفاذه إلى خليفته لمحاكمة خصمه ، أو سماع البينة عليه ومكاتبة خليفته
وإن
لم يكن في بلد الغائب خليفة فقد قال
أبو يوسف : إن كان على مسافة يرجع منها إلى وطنه قبل منام الناس أحضره وإن بعد عنها لم يحضره .
وعند
الشافعي يحضر إن كان على مسافة لا تقصر بها الصلاة .
واختلف أصحابنا إن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة .
فذهب أكثرهم وهو الظاهر من مذهب
الشافعي إلى أنه يحضره للمحاكمة لئلا يتمانع الناس في الحقوق بالتباعد .
وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إحضاره ؛ لأنه لما كانت مسافة القصر شرطا في انتقال ولاية الغائب في النكاح إلى الحاكم ، دل ذلك على اعتبار في إحضار الخصم ، وهذا غير صحيح ، للتعليل المتقدم .
وإذا لزم إحضار الغائب على ما بيناه لم يجز للقاضي أن يحضره إلا بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها : لأنه قد يجوز أن يدعي ما لا تصح فيه الدعوى .
حكي أن رجلين تقدما إلى قاض ، فقال أحدهما : إن أخا هذا قتل أخي ، فقال القاضي للمدعى عليه ما تقول ؟ فقال : إن غير هذا قتله غيري فماذا علي .
[ ص: 305 ] وهذا جواب صحيح عن فساد هذه الدعوى ، وكان من صحتها أن يقول : إن أخاه قتل أخي ، وأنا وارثه ، وهذا من عاقلته ، لتتوجه له المطالبة بهذه الدعوى .
ولذلك لم يجز أن يحضر الغائب إلا بعد تحرير الدعوى بما يصح سماعها والحكم فيها ببينة أو يمين .
ولو كانت
الدعوى على حاضر في البلد ، جاز للقاضي إحضاره قبل تحرير الدعوى ، والفرق بينهما أن في إحضار الغائب مشقة ، فلم يلزم إلا بعد تحرير الدعوى
وليس في إحضار من في البلد مشقة ، فجاز إحضاره قبل تحرير الدعوى .