فصل :
سير الدعوى حين حضور الخصمين
فإذا تقرر ما وصفنا ، من واجب إعداء المستعدي ، وحضر الخصمان مجلس الحكم ، ففصل الحكم بينهما يشتمل على ستة فصول :
أحدها :
ابتداء المدعي بتحرير الدعوى ، لتنتفي عنها الجهالة ، إلا فيما يصح تمليكه مع الجهالة كالوصايا فيجوز أن يدعيها مجهولة ؛ لأنه يجوز أن يتملكها مجهولة ولا تصح الدعوى فيما عداها إلا معلومة .
فإن قيل : لو أقر بمجهول جاز فهلا جاز أن يدعي مجهولا .
قيل : لوقوع الفرق بينهما بأنه قد تعلق بالإقرار حق لغيره فلزم بالمجهول خيفة إنكاره ولم يتعلق بالدعوى حق لغيره .
منع الجهالة .
وإذا كان كذلك فالدعوى على ضربين :
أحدهما :
أن تكون مما لا ينقل من دار وعقار فالعلم بها يكون بثلاثة أشياء : ذكر بلدها ، وذكر مكانها ، وذكر حدودها الأربعة .
فإن ذكر ثلاثة حدود منها ، لم يقنع وأجازه
أبو حنيفة .
وإن اشتهرت الدار باسم في البلد لا يشاركها غيرها فيه ، ميزها بذكر الاسم ، لأنه زيادة علم .
ولفظ الدعوى في مثلها ، أن يقول : لي في يده ، ولا يقول : لي عليه ، ولا عنده .
ثم يصل هذه الدعوى ، بأن يقول : وقد غلبني عليها بغير حق ، أو قد باعها علي ولم يسلمها ، ولا يلزم معه البيع إلا بعد أن يختلفا فيه ، فتنتقل الدعوى إلى البيع فتوصف .
[ ص: 306 ] فإن كانت الدار في يد المدعي ، لم تصح الدعوى إلا أن يتعلق له بها حق على المدعى عليه من أجرة سكناها ، أو قيمة مستهلك منها .
فإن قال وقد نازعني فيها لم تصح ، لأن المنازعة دعوى تكون من غيره لا منه .
وإن قال قد عارضني فيها بغير حق ، فقد اختلف أصحابنا في صحة هذه الدعوى .
فقال
أبو حامد تصح هذه الدعوى ، ويسأل الخصم عنها ؛ لأن في المعارضة رفع يد مستحقه .
وقال بعضهم : لا تصح هذه الدعوى ، حتى يصف المعارضة بما تصح به الدعوى .
الضرب الثاني : أن
تكون الدعوى فيما ينقل ، فهي على ضربين :
أحدهما : أن تكون في الذمة .
فقد يستحق ذلك من خمسة أوجه : ثمن ، وأجرة ، وقرض ، وقيمة متلف ، وعقل سلم .
ولفظ الدعوى فيه أن يقول : لي عليه ، ولا يقول لي بيده .
فإن قال : " لي عنده " جاز عندنا ، ولم يجز عند
أبي حنيفة .
وإنما جوزناه لأن " عند " قد تستعمل في موضع " على " اتساعا .
وهو في هذه الدعوى مخير بين أن يذكر سبب الاستحقاق من أحد هذه الوجوه الخمسة أو لا يذكره ، بعد أن يصف ما يدعيه في الذمة ، بما ينفي عنه الجهالة .
فإن كان من سلم استوفى أوصاف السلم كلها .
وإن كان من ثمن ، أو أجرة ، أو قيمة متلف ، صار معلوما بأربعة أشياء : ذكر قدره ، وذكر جنسه ، وذكر نوعه ، وذكر صفته .
فالقدر : أن يقوله : ألف أو مائة .
والجنس : أن يقول : دراهم أو دنانير .
والنوع : أن يقول في الدراهم : بيض أو سود ، وفي الدنانير مشرقية أو مغربية ، وإن نسبت إلى طابع ذكر الطابع ، لا سيما إذا اختلفت به القيمة .
والصفة : أن يقول : عتق أو جدد ، صحاح أو كسور ، فإن لم يختلف عتقها وجددها ، ولا صحاحها وكسورها ، لم يلزمه ذكر هذه الصفة .
[ ص: 307 ] ولا يجوز أن يطلق
ذكر الدراهم والدنانير في الدعوى ، وإن جاز إطلاقا في الأثمان ، لأمرين :
أحدهما : إن زمان العقد يقيد صفة الأثمان بالغالب من النقود ، ولا يتقيد ذلك بزمان الدعوى لتقدمها عليه .
والثاني : لجواز أن يكون الثمن في الدعوى مشروطا من غير الغالب .
والضرب الثاني : أن تكون الدعوى قائمة فهي على ضربين :
أحدهما : أن تكون حاضرة فتصح الدعوى لها بالإشارة إليها ، من غير ذكر الصفة .
ولفظ الدعوى : أن يقول : لي في يده هذا العبد ، أو هذه الدابة . فإن قال : لي عنده ، جاز . وإن قال : لي عليه ، جاز عند بعض أصحابنا ولم يجز عند بعضهم .
والضرب الثاني : أن
تكون العين غائبة فهي على ضربين :
أحدهما : أن تضبط بالصفة ، كالحبوب ، والأدهان ، مما له مثل فيصفها ، ولا تحتاج إلى ذكر قيمتها ؛ لأن القيمة لا تستحق في ذي المثل .
وإن كان مما يضبط بالصفة وليس بذي مثل ، كالثياب والحيوان ، لزم أن يستوفي جميع أوصافه ، ويستظهر بذكر قيمته ، لجواز أن يستحقها مع التلف ، فإن أغفل القيمة جاز مع بقاء العين لأنها غير مستحقة .
والضرب الثاني : أن تكون مما لا تضبط بالصفة كاللؤلؤ ، والجوهر ، فعليه في الدعوى ذكر الجنس والنوع ، وإن كان مختلف الألوان ذكر اللون ، ثم حرر الدعوى ونفى الجهالة بذكر القيمة ؛ لأنه لا يصير معلوما إلا بها .
فهذا شرح ما تصير الدعوى به معلومة يصح سماعها والسؤال عنها فإن قصر فيها المدعي للقاضي أن يسأله عما قصر فيه ولا يبتدئه بالتعليم .
فإن علمه تحرير الدعوى فقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه على وجهين :
أحدهما : يجوز وهو قول
أبي سعيد الإصطخري .
والثاني : لا يجوز وهو قول الأكثرين كما لا يجوز أن يعلمه احتجاجا ولا يلقنه إقرارا وإنكارا ، فهذا حكم الدعوى .