فصل : والفصل الرابع في
سماع البينة :
والبينة تسمع على المنكر دون المقر .
لأن الإقرار أصل هو أقوى ، والبينة فرع هو أضعف ، ولم يجز ترك الأقوى بالأضعف .
شروط سماع البينة .
ولسماعها أربعة شروط :
أحدها : أن
تكون موافقة للدعوى .
فإن خالفتها في الجنس لم تسمع .
وإن خالفتها في القدر إلى نقصان حكم في القدر بالبينة دون الدعوى .
وإن خالفتها إلى زيادة حكم في القدر بالدعوى دون البينة ما لم يكن من المدعي تكذيب للبينة في الزيادة ، فإن أكذبها فيه ردت ولم يحكم بها .
والشرط الثاني : أن
يتفق شاهدا البينة على الشهادة .
فإن اختلف الشاهدان في الجنس ردت .
وإن اختلفا في القدر تمت في الأقل دون الأكثر .
والشرط الثالث : أن
تسمع بعد الدعوى والإنكار .
فإن سمعت قبل الدعوى لم تجز .
وإن سمعت بعد الدعوى وقبل الإنكار ، ففي جوازه وجهان :
أحدهما : يجوز سماعها لوجودها بعد الطلب .
والوجه الثاني : لا يجوز سماعها حتى تؤدى بعد الإنكار لتقدمها على زمانها .
والشرط الرابع : أن
يكون الأداء بلفظ الشهادة دون الخبر ، فيقول أشهد أنه أقر عندي وأشهدني على نفسه أن عليه لفلان كذا ، وإن كانت الشهادة على إقرار .
فإن
قال أشهد أنه أقر عندي ولم يقل وأشهدني على نفسه ، فإن لم يجعل الاسترعاء شرطا في تحمل الإقرار صح هذا الأداء .
وإن جعل الاسترعاء شرطا في تحمله لم يصح .
[ ص: 312 ] وإن كانت الشهادة على غير إقرار كالثمن في بيع حضره أو صداق في نكاح شهده أو قرض شاهده ، ففي لزوم ذكره للسبب في أدائه وجهان ، كقوله في أداء الإقرار وأشهدني بناء على اعتبار الاسترعاء في التحمل .
فأما إن شهد بلفظ الخبر فقال له عليه كذا ، أو أعلم أن له عليه كذا ، أو أقر عندي أن عليه كذا لم تصح هذه الشهادة ، ولم يجز الحكم بها ؛ لأن الخبر حكاية حال مضافة إلى المشهود عليه ، فلم يتعلق بها الإلزام إلا بالشهادة المضافة إلى الشاهد .
فإذا تقرر اعتبار هذه الشروط الأربعة في صحة الشهادة لم يكن للقاضي أن يسمعها إلا بمسألة المدعي ؛ لأن سماعها حق له .
والأولى أن يسمعها على المدعى عليه في عينه وبمشهده .
فإذا سمعها لم يكن له أن يحكم بها ، إلا أن يسأله المشهود له أن يحكم له ببينته .
فإذا سأله الحكم فالأولى أن لا يحكم إلا بعد إعلام المشهود عليه أنه يحكم عليه بالبينة ، ليذكر ما لعله أن يكون عنده من الأسباب التي ترد بها الشهادة ، أو يقر فيكون الإقرار أقوى من الشهادة .
فإن
حكم بها قبل إعلام المشهود عليه جاز .
وإن حكم بها قبل مسألة المشهود له ، ففي جوازه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في جواز
سؤال القاضي المدعى عليه قبل أن يطالبه المدعي بسؤاله :
أحدهما : لا يجوز حكمه ، لأنه حكم لغير طالب .
والوجه الثاني : يجوز حكمه ؛ لأن شواهد الحال تدل على الطلب .
فإن قال المدعى عليه قبل الشهادة : ما يشهد به هذان الشاهدان علي فهو حق لم يكن إقرارا منه بما يشهدان به لتقدمه على الشهادة .
ولو قال بعد الشهادة : ما شهدا به علي حق كان إقرارا .
ولو قال ما شهدا به علي صدق لم يكن إقرارا .
والفرق بينهما أن الحق : ما لزم ، فلم يتوجه إليه احتمال ، والصدق : قد يكون فيما قضاه ، فتوجه إليه الاحتمال .
وإذا حكم عليه بالبينة لم يلزم إحلاف المدعي مع بينته ، وهو قول جمهور الفقهاء .
[ ص: 313 ] وقال
ابن أبي ليلى : لا أحكم له بالبينة حتى يحلفه معها ، كما لا أحكم له على غائب إلا بعد يمينه .
وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أن في إحلافه مع بينته قدحا فيها .
والثاني : أنه يحلف في الغائب ، لجواز أن يكون قد قضاه ، والحاضر لو قضاه لذكره .
فلو
أخر المدعي إحضار بينته ، وأراد ملازمة خصمه على إحضاره ، سأله القاضي عنها ، فإن كانت غائبة لم يكن له ملازمة الخصم ، وقيل : له لك الخيار في تأخيره إلى حضور بينتك ، أو تحلفه فتسقط الدعوى ، فإن حضرت بينتك لم تمنع اليمين من سماعها .
وإن كانت البينة حاضرة في البلد ، فأراد ملازمته على حضورها كان له أن يلازمه ما كان مجلس الحكم في يومه باقيا .
فإذا انقضى المجلس لم يكن له ملازمته ما لم تشهد أحواله بوجود البينة .
فإن شهدت أحواله بوجود البينة جاز أن يلازمه إلى غاية أكثرها ثلاثة أيام لا يتجاوزها .
ولا يلزمه إقامة كفيل بنفسه .
وقال
أبو حنيفة : له أن يلازمه أبدا ما كان حضورها ممكنا أو يعطيه كفيلا بنفسه لرواية الهرماس بن حبيب ، عن أبيه ، عن جده
أنه استعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل في حق له ، فقال له : الزمه .
ودليله ما رواه
سماك ، عن
علقمة بن وائل ، عن أبيه
وائل بن حجر nindex.php?page=hadith&LINKID=925606أن رجلا من حضرموت ورجلا من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي : هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي ، وقال الكندي : أرضي وفي يدي أزرعها حق له فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : " شاهداك أو يمينه " فقال : إنه فاجر لا يتورع من شيء فقال : " ليس لك إلا ذلك " فنفى استحقاق الملازمة .
فأما الجواب عن الخبر أنه إذن في الملازمة على حق ، والحق ما ثبت وجوبه .