[ ص: 3 ] الشهادات في البيوع
مختصر من الجامع من اختلاف الحكام والشهادات ومن أحكام القرآن ومن مسائل شتى سمعتها منه لفظا
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : "
قال الله عز وجل : وأشهدوا إذا تبايعتم فاحتمل أمره - جل ثناؤه - أمرين : أحدهما : أن يكون مباحا تركه ، والآخر : حتما يعصي من تركه بتركه فلما أمر الله ، عز وجل ، في آية الدين - والدين تبايع - بالإشهاد ، وقال فيها
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته دل على أن الأولى دلالة على الحظ لما في الإشهاد من منع التظالم بالجحود أو بالنسيان ولما في ذلك من براءات الذمم بعد الموت لا غير وكل أمر ندب الله إليه فهو الخير الذي لا يعتاض منه من تركه ، وقد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بايع أعرابيا فرسا ، فجحده بأمر بعض المنافقين ، ولم يكن بينهما إشهاد ، فلو كان حتما ما تركه صلى الله عليه وسلم " .
قال
الماوردي : أما الشهادة ، فهي إحدى الوثائق في الحقوق والعقود ، وهي أعم من الرهن والضمان ، لجوازها فيما لا يجوز فيه الرهن والضمان ، وندب الله تعالى إليها احتياطا في مواضع من كتابه العزيز ، فقال تعالى :
وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] . وقال تعالى :
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ البقرة : 282 ] . وقال تعالى :
فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله [ الطلاق : 2 ] . وقال تعالى :
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] .
فدل ما تقدم من الآيات الثلاث على الأمر بالشهادة في الحقوق ، ودل ما تأخر من الآيتين على
وجوب أدائها على الشهود ، فدل ما ذكرنا على أن الشهادة مندوب إليها .
وما يشهد فيه ضربان : حقوق وعقود .
فأما الحقوق ، فالشهادة فيها مندوب إليها لحفظها على أهلها ، وأما الشهادة في العقود ، فالشهادة فيها تنقسم ثلاثة أقسام :
أحدها :
ما كانت الشهادة واجبة فيه ، وشرطا في صحته ، وهي عقود المناكح ، وقد ذكرناه في كتاب النكاح .
[ ص: 4 ] والقسم الثاني :
ما كانت الشهادة فيه وثيقة ، ولم تكن شرطا في صحة عقده كالإجارة ، والرهن ، والقراض ، والوكالة .
والقسم الثالث :
ما كان مختلفا في وجوبها فيه ، وهو عقود البياعات ، فمذهب
الشافعي ،
وأبي حنيفة ،
ومالك ، وأكثر الفقهاء : أن الشهادة في البيع مستحبة وليست واجبة .
وقال
سعيد بن المسيب ،
وداود ، وطائفة من أهل الظاهر : إن الشهادة في البيع واجبة . استدلالا بقول الله تعالى :
وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] وهذا أمر يدل على الوجوب ، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
ثلاثة يدعون فلا يستجاب لهم : رجل آتى السفيه ماله ، فهو يدعو عليه قال الله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم [ النساء : 5 ] . ورجل له امرأة سيئة الخلق ، فهو يدعو عليها للخلاص منها وقد جعل الله إليه طلاقها ، ورجل باع بيعا فلم يشهد والله تعالى يقول : وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] ، فدل على وجوب الشهادة في البيع .
ودليلنا ما ذكره
الشافعي من قول الله تعالى :
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة : 282 ] . والدين المؤجل لا يثبت إلا في البيوع ، والكتاب يكون للشهادة ، ثم قال :
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته [ البقرة : 283 ] . فدل على أن الشهادة في البيع محمولة على الإرشاد والاستحباب دون الحتم والوجوب .
وروي
nindex.php?page=hadith&LINKID=925620عن جابر بن عبد الله أنه قال : تخلفت عن الناس في السير ، فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " بعني جملك وأستثني لك ظهره إلى المدينة قال : فبعته منه " فدل الظاهر أنه لم يشهد .
وروي
nindex.php?page=hadith&LINKID=925621أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي شيئا ، فاستتبعه ليقضيه الثمن ، فلما رآه المشركون ، فطفقوا ، وطلبوه بأكثر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد ابتعته فجحده الأعرابي ، فقال : من يشهد لي ، فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد لك . قال : بم تشهد ، ولم تحضر ، فقال : نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك على أخبار الأرض ؟ فسماه النبي صلى الله عليه وسلم ذا [ ص: 5 ] الشهادتين " فلو وجبت الشهادة في البيع لما تركها في ابتياعه من الأعرابي ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925622من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " فذكر شروط العقد ولم يذكر الشهادة .
ولأنها وثيقة في البيع ، فلم تجب فيه كالرهن والضمان ، ولأنه عقد معاوضة محضة ، فلم تجب فيه الشهادة كالإجارة ، ولأن ما صح فيه الإباحة لم تجب فيه الشهادة كبيع الشيء التافه ، ولأن ما قصد به تمليك المال لم تجب فيه الشهادة كالهبة .
وأما الجواب عن الآية فمن وجهين :
أحدهما : أن أمره بها بعد البيع دليل على أنها غير واجبة في البيع .
والثاني : ما أجاب به
الشافعي عنها .
وأما الجواب عن الخبر فمن وجهين :
أحدهما : أنه موقوف على
علي وليس بمتصل .
والثاني : أنه محمول على الاستحباب بدليل ما قررناه والله أعلم بالصواب .