مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " واختلفوا في عددها ، فقال
عطاء لا يكون في شهادة النساء لا رجل معهن في أمر النساء - أقل من أربع عدول ، قال
الشافعي رحمه الله : وبهذا نأخذ ، ولما ذكر الله النساء فجعل امرأتين يقومان مقام رجل في الموضع الذي أجازهما فيه ، دل والله أعلم إذ أجاز المسلمون
شهادة النساء في موضع - أن لا يجوز منهن إلا أربع عدول : لأن ذلك معنى حكم الله عز وجل ، قال
الشافعي وقلت لمن يجيز شهادة امرأة في الولادة كما يجيز الخبر بها لا من قبل الشهادة ، وأين الخبر من الشهادة ؟ أتقبل امرأة عن امرأة أن امرأة رجل ولدت هذا الولد ؟ قال : لا ، قلت : فتقبل في الخبر ؟ أخبرنا
[ ص: 21 ] فلان عن فلان ؟ قال : نعم قلت : فالخبر هو ما استوى فيه المخبر ، والمخبر ، والعامة ، من حلال أو حرام ؟ قال : نعم ، قلت : والشهادة ما كان الشاهد منه خليا ، والعامة إنما تلزم المشهود عليه ؟ قال : نعم . قلت : أفترى هذا مشبها لهذا ؟ قال : أما في هذا فلا " .
قال
الماوردي : وإذ قد مضى ما يقبل فيه شهادة النساء منفردات ، فقد اختلف الفقهاء في
عدد المقبول منهن على خمسة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب
الشافعي ، وبه قال
عطاء ، أنه لا يقبل أقل من أربع نسوة .
والثاني : وهو مروي عن
أنس ، ويحكى عن
عثمان البتي ، أنه يقبل فيه ثلاثة نسوة ، ولا يقبل أقل منهن .
والثالث : وهو مذهب
مالك ،
والثوري : أنه يقبل شهادة امرأتين .
والرابع : وهو مذهب
الحسن البصري ، وبه قال
ابن عباس : يقبل في الولادة شهادة القابلة وحدها ، ولا يقبل شهادة غير القابلة إلا مع غيرها .
والخامس : وهو مذهب
أبي حنيفة ، يقبل فيه شهادة المرأة ، القابلة كانت أو غير قابلة إلا ولادة المطلقة ، فلا يقبل فيه شهادة الواحدة ، استدلالا بما روى
ابن المدائني عن
الأعمش ، عن
أبي وائل ، عن
حذيفة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : "
أجاز شهادة القابلة " وبما روي عن
علي عليه السلام : " أنه أجاز شهادتها " ، ولا مخالف له ، فكان هذا نصا وإجماعا ، ولأنها شهادة تتضمن معنى الخبر ، فلما قبلت وحدها في الأخبار ، قبلت في هذه الشهادة ، ولأنها حال يحتشم فيها من عدا القابلة ، فجاز قبول شهادتها وحدها ، اعتبارا بالضرورة .
ولأنه لما استوى رد الواحد ومن زاد عليها في الموضع الذي لا يقبلن فيه وجب أن تكون الواحدة مساوية لمن زاد عليها في الموضع الذي تقبل فيه .
وأما
مالك فاستدل بأنهن لما قمن في انفرادهن بالقبول مقام الرجال ، وجب أن يقمن في العدد مقام الرجال في القبول ، وأكثر عدد الرجال اثنان ، فاقتضى أن يكون أكثر عدد النساء اثنتين ، وأما
البتي فاستدل بأن الله تعالى ضم شهادة المرأتين للرجل في الموضع الذي لا ينفردن فيه ، فوجب أن يستبدل الرجل بامرأة في الموضع الذي ينفردن فيه فيصيرون ثلاثا .
ودليلنا على جميعهم أن شهادة النساء أنقص من شهادة الرجال من وجهين :
[ ص: 22 ] أحدهما : أن الله تعالى أجاز
شهادة امرأتين مقام شهادة رجل بقوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان [ البقرة : 282 ] .
والثاني : أنهن لا يقبلن في مواضع يقبل فيها شهادة الرجال ، ويقبل الرجال في المواضع الذي يقبل فيها شهادة النساء ، فلما لم يقبل شهادة الواحد من الرجال مع قوته ، فأولى أن لا تقبل شهادة الواحدة من النساء مع ضعفها .
ولأنها شهادة ينفرد المشهود عليه بالتزامها ، فوجب أن يفتقر إلى العدد كسائر الحقوق ، وقد حكى
المزني قول
الشافعي " والشهادة ما كان الشاهد منه خليا " ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أن يكون الشاهد خليا من نفع يعود عليه بالشهادة ، ليوضح به الفرق بين الشهادة والأخبار التي تقبل وإن عادت بنفع على المخبر .
والثاني : أن يكون خليا أن يتعلق عليه بالشهادة حكم ، فإن الوارثين إذا شهدا بدين على الميت كان ما عليهما منه واجبا بإقرارهما ، وما على غيرهما منه واجبا بشهادتهما ، ويدل على
أبي حنيفة خاصة أنها شهادة على ولادة ، فلم يقبل فيها شهادة واحدة كالشهادة على ولادة المطلقة .
فأما الجواب عن الحديث في
شهادة القابلة مع ضعفه وأن
المدائني تفرد بروايته ، وهو ضعيف عند أصحاب الحديث ، فلا دليل فيه ، لأنه قبلها ولم ينفرد بقبولها وحدها ، وتكون فائدة الحديث أنها وإن باشرت أحوال الولادة ، فلا يمنع ذلك من قبول شهادتها ، وكذلك المروي عن
علي عليه السلام .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن فيها معنى الخبر فمن وجهين :
أحدهما : أنها لو جرت مجرى الخبر لقبل فيها شهادة العبد والأمة ، كما يقبل غيرهما ولقبلت
شهادة المرأة عن المرأة كما يقبل خبر المرأة عن المرأة ، وقد قال
الشافعي : " يقبل خبر المعنعن ولا تقبل شهادة المعنعن " ، يعني فلانا عن فلان عن فلان .
والثاني : أن الخبر يتساوى فيه المخبر والمخبر في الالتزام والانتفاع ، ولا يتساوى الشاهد ومن شهد له وعليه .
وأما الجواب عن استدلالهم باحتشام من عدا القابلة فمن وجهين :
أحدهما : أن العرف جار باجتماع النساء عند الولادة للتعاون وفضل المراعاة .
والثاني : أن هذا المعنى يقتضي أن لا تقبل شهادة غير القابلة وهو أن يكون
[ ص: 23 ] للحسن دليل .
وأما الجواب عن الاستدلال بالرد والإجازة فمن وجهين :
أحدهما : أنه اعتبار بالضد ، لأنه اعتبر الإجازة بالرد ، والرد ضد الإجازة ، والشيء إنما يعتبر بنظيره ولا يعتبر بضده .
والثاني : أنه لو جاز هذا الاعتبار لجاز أن يقال : لما رد بالفسق شهادة الواحد والعدد ، وجب أن يقبل بالعدالة شهادة الواحد والعدد ، وهذا غير جائز ، فوجب أن يكون ما ذكروه أيضا غير جائز .