فصل : وأما
الكافر فلا تقبل شهادته لمسلم ، ولا عليه في وصية ، ولا غيرها ، في سفر كان أو حضر .
وحكي عن
داود : أنه أجاز
شهادة أهل الذمة على المسلم في وصيته ، في السفر دون الحضر .
وبه قال من التابعين
الحسن البصري ،
وسعيد بن المسيب ،
وعكرمة . فأما قبول شهادة بعضهم لبعض ، وعلى بعض ، فقد اختلف في جوازها على ثلاثة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب
الشافعي أنه لا تقبل شهادتهم بحال سواء اتفقت مللهم أو اختلفت .
وبه قال
مالك ،
والأوزاعي ،
وابن أبي ليلى ،
وأحمد بن حنبل .
والمذهب الثاني : وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه أن شهادة بعضهم على بعض مقبولة مع اتفاق مللهم واختلافها ، وبه قال
حماد بن أبي سليمان ،
وسفيان الثوري ، وقضاة
البصرة ،
الحسن ،
وسوار وعبيد الله .
والمذهب الثالث : وهو قول
الزهري ،
والشعبي ،
وقتادة أنه تقبل شهادتهم لأهل ملتهم وعليهم ، ولا تقبل على غير أهل ملتهم
كاليهود على
النصارى ،
والنصارى على
اليهود . واستدلوا بقول الله تعالى
ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم [ المائدة : 156 ] .
قال
ابن عباس : من غير دينكم من أهل الكتاب ، فجعله داود مقصورا على الوصية ، وجعله
أبو حنيفة مقصورا على أهل الذمة ، وجعله
الزهري ،
والشعبي مقصورا على الموافقين في الملة دون المخالفين وروى
الشعبي عن
جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925637أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض " قالوا : وهذا نص .
وروى
أبو أسامة عن
مجالد عن
عامر عن
جابر بن عبد الله ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925638جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " ، فأتوه [ ص: 62 ] بابني صوريا " فنشدهما كيف تجدون أمر هذين في التوراة " فقالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما ، قال : " فما منعكما أن ترجموهما " قالا ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما " .
فدل على قبول شهادة أهل الذمة ، بعضهم على بعض قالوا : ولأن الكفر لا ينافي الولاية ، لأن الكافر يلي على أطفاله وعلى نكاح بناته ، فكان أولى أن لا يمنع من الشهادة ، لأنها أخص شروطا من الولاية .
قالوا : ولأن من كان عدلا من أهل دينه قبلت شهادته كالمسلمين .
قالوا : ولأنه فسق على وجه التأويل ، فلم يمنع من قبول الشهادة كأهل البغي .
ودليلنا : قول الله تعالى :
وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] ، فمنعت هذه الآية من قبول شهادتهم من وجهين :
أحدهما : أنهم غير عدول .
والثاني : أنهم ليسوا منا .
وقال تعالى :
إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ الحجرات : 6 ] . والكافر فاسق ، فوجب أن يتثبت في خبره ، والشهادة أغلظ من الخبر ، فأوجبت التوقف عن شهادته . وروى
عبادة بن نسي عن
ابن غنم قال : سألت
معاذ بن جبل عن شهادة اليهودي على النصراني ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم ، وعلى غيرهم " فإذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من قبول شهادتهم على غير أهل دينهم ،
وأبو حنيفة يسوي بين أهل دينهم وغيرهم دل على أنها لا تقبل على أهل دينهم ، وعلى غيرهم ، ولأن الفاسق المسلم أكمل من الكافر العدل ، لصحة العبادات من الفاسق ، واستحقاق الميراث ، وذلك لا يصح من الكافر ، ولا يستحق ميراث مسلم ، ثم كان الفسق مانعا من قبول الشهادة ، فكان الكفر أولى أن يكون مانعا منها .
ويتحرر لك من هذا الاستدلال قياسان .
أحدهما : أن من لم تقبل شهادته على المسلم ، لم تقبل شهادته على غير المسلم كالفاسق .
والثاني : أن من ردت شهادته بالفسق ، ردت شهادته بالكفر ، كالشهادة على
[ ص: 63 ] المسلم ، ولأن الكذب يمنع من قبول الشهادة ، والكذب على الله تعالى أعظم من الكذب على عباده ، ثم كانت شهادة من كذب على الناس من المسلمين مردودة ، والكافر الكاذب على الله أولى أن ترد شهادته ، وقد وصف الله تعالى كذبهم فقال :
يحرفون الكلم عن مواضعه [ المائدة : 13 ] . وقال تعالى :
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون [ آل عمران : 78 ] .
ويتحرر من هذا الاستدلال قياسان :
أحدهما : أن
من كان موسوما بالكذب ردت شهادته كالمسلم .
والثاني : أن الكذب إذا ردت به شهادة المسلم ، فأولى أن ترد به شهادة الكافر ، كالكذب على الناس ، ولأن نقص الكفر أغلظ من نقص الرق ، لوجهين :
أحدهما : أن نقص الكفر يمنع من صحة العبادات ، ولا يمنع منها نقص الرق .
والثاني : أن نقص الكفر يمنع من قبول الخبر ، ولا يمنع منه نقص الرق ، ثم ثبت باتفاقنا
وأبي حنيفة أن نقص الرق يمنع من قبول الشهادة ، فكان أولى أن يمنع من قبولها - نقص الكفر ، ولهذه المعاني منع
أبو حنيفة من قبول
شهادة عبدة الأوثان اعتبارا بنقص الكفر ، فكذلك أهل الكتاب .
ويتحرر من هذا الاستدلال قياسان :
أحدهما : أنها شهادة يمنع منها الرق ، فوجب أن يمنع منها الكفر ، قياسا على شهادة الوثني .
والثاني : أنها شهادة يمنع منها كفر الوثني ، فوجب أن يمنع منها كفر الكتابي كالشهادة على المسلم .
فأما استدلاله بالآية فسنذكر من اختلاف أهل التأويل في تفسيرها ما يتكافأ به الاستدلال بها .
وأما قوله تعالى :
شهادة بينكم [ المائدة : 106 ] ، ففيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها الشهادة بالحقوق عند الحكام .
والثاني : أنها شهادة الحضور للوصية .
والثالث : أنها أيمان ، ومعنى ذلك ، أيمان بينكم ، فعبر عن اليمين بالشهادة ، كما قال في أيمان المتلاعنين
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور : 6 ] ، فلا يكون
لأبي حنيفة فيها دليل إلا على التأويل الأول ، ويمنعه التأويلان الآخران منهما ، ولا يكون
لداود فيها دليل إلا على التأويل الثاني ، ويمنعه التأويلان الآخران فيهما .
[ ص: 64 ] وفي قوله :
اثنان ذوا عدل منكم [ المائدة : 106 ] . تأويلان :
أحدهما : يعني من المسلمين ، وهو قول
ابن عباس ،
ومجاهد .
والثاني : يعني وصي الموصي ، وهو قول
الحسن ،
وسعيد بن المسيب وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما شاهدان يشهدان على وصية الموصي .
والثاني : أنهما وصيان وليه ،
ولأبي حنيفة وداود دليل على التأويلين الآخرين ، وإن جاز أن يكون لهما دليل على التأويلين الأولين .
وقوله تعالى :
أو آخران من غيركم فيه تأويلان :
أحدهما : من غير دينكم من أهل الكتاب ، وهذا قول
ابن عباس ،
وأبي موسى الأشعري ،
وشريح ،
وسعيد بن جبير .
والثاني : من غير قبيلتكم وعشيرتكم ، وهذا قول
الحسن ،
وعكرمة ،
والزهري ، وليس لهما فيهما على هذا التأويل دليل ، وإن جاز أن يكون لهما على التأويل الأول دليل .
وفي هذا الموضع قولان :
أحدهما : أنها على التخيير في اثنين منا ، أو آخرين من غيرنا .
والثاني : أنها لغير التخيير ، وأن معنى الكلام ، أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم ، وهذا قول
ابن عباس ،
وشريح ،
وسعيد بن جبير إن أنتم ضربتم في الأرض [ المائدة : 106 ] يعني سافرتم "
فأصابتكم مصيبة الموت " ، وفي الكلام محذوف ، وتقديره ، وقد أسندتم الوصية إليهما .
وقوله :
تحبسونهما من بعد الصلاة [ المائدة : 106 ] . أي : تستوثقوا بهما للأيمان ، وهذا خطاب للورثة ، وفي هذه الصلاة قولان :
أحدهما : من بعد صلاة العصر ، وهذا قول
شريح ،
وسعيد بن جبير .
والثاني : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما من أهل الذمة ، وهذا قول
ابن عباس ،
والسدي ،
فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا [ المائدة : 106 ] ، فيها قولان :
أحدهما : إن ارتبتم بالوصيين في الخيانة أحلفهما الورثة .
والثاني : إن ارتبتم بالشاهدين في العدالة ، والجرح أحلفهما الحاكم .
[ ص: 65 ] وفي قوله :
نشتري به ثمنا فيهما تأويلان :
أحدهما : لا نأخذ عليه رشوة ، وهذا قول
عبد الرحمن بن زيد .
والثاني : لا نعتاض عليه بحق ، ولو كان ذا قربى أي : لا نميل مع ذي القربى في قول الزور والشهادة بغير حق ، ولا نكتم شهادة الله ، عندنا فيما أوجبه من أدائها علينا .
وقوله تعالى :
فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما [ المائدة : 107 ] . وفي " عثر " تأويلان :
أحدهما : ظهر ، حكاه
ابن عيسى .
والثاني : اطلع ، قاله
النخعي .
والفرق بينهما وإن تقارب معناهما : أن الظهور ما بان بنفسه والاطلاع ما بان بالكشف عنه .
وقوله :
استحقا إثما [ المائدة : 107 ] . إن كذبا وخانا ، فعبر عن الكذب والخيانة بالإثم ، لحدوثه عنهما ، وفي الذي
عثر على أنهما استحقا إثما - قولان :
أحدهما : أنهما الشاهدان ، وهذا قول
ابن عباس .
والثاني : أنهما الوصيان ، وهذا قول
سعيد بن جبير . " فآخران " يعني من الورثة .
يقومان مقامهما يعني في حين ظهر لهما الخيانة من الذين استحق عليهما الأوليان ، فيه قولان :
أحدهما : الأوليان بالميت من الورثة ، وهذا قول
سعيد بن جبير .
والثاني : الأوليان بالشهادة من المسلمين وهذا قول
ابن عباس وشريح ، وسبب نزول هذه الآية ، ما روى
عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن
ابن عباس ، قال :
خرج رجل من بني سهم ، قيل : إنه ابن أبي مارية ، مولى العاص بن وائل السهمي مع تميم الداري ، وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وجد الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من تميم الداري ، وعدي بن بداء ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، قيل : إنه عبد الله بن عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة فحلفا لشهادتنا أحق من [ ص: 66 ] شهادتهما ، وأن الجام لصاحبهم فنزلت فيهم هاتان الآيتان ، فعند ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " سافروا مع ذوي الجدود والميسرة " .
واختلف في حكم هاتين الآيتين ، هل هو منسوخ أو ثابت ؟ فقال
ابن عباس : حكمهما منسوخ .
وقال
الحسن البصري : حكمهما ثابت ، وقد تجاوزنا بتفسير هاتين الآيتين حد الجواب ليعرف حكمهما ، وليس مع هذا الاختلاف دليل فيهما ، فإن استدل من نصر مذهب
داود بما رواه
غيلان ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
سفيان ، عن
عامر الشعبي ، قال : شهد رجلان نصرانيان من أهل
دقوقاء على وصية مسلم ، وأن أهل الوصية أقرا بهما
أبا موسى الأشعري ، فاستحلفهما بالله بعد العصر ما اشترينا ثمنا ، ولا كتمنا شهادة ، بالله إنا إذا لمن الآثمين ، ثم قال
أبو موسى ، والله إن هذه لقضية ما قضي بها منذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم .
قيل : هذا خلاف بين الصحابة ، فلم يحج بعضهم بعضا ، لا سيما والأكثرون على خلافه .
ثم هذه قضية في عين يحتمل أن يكون لها تأويل ، فامتنع أن يكون فيها دليل .
وأما الجواب عن استدلالهم بحديث
جابر أنه أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض فهو أنه أراد بالشهادة كقوله تعالى :
اتخذوا أيمانهم جنة [ المنافقون : 2 ] . وكما قال في المنافقين :
قالوا نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ] . أي : نحلف .
وأما الجواب عن رجم الزانيين اليهوديين : فهو أنه لم يرو أنه قبل شهادة
اليهود ، ويجوز أن يكون الشهود مسلمين ، أو حصل مع شهادة
اليهود اعتراف الزانيين .
وأما الجواب عن استدلالهم بصحة ولايتهم : فهو أن الولاية خاصة فخف حكمنا ، لما يراعى فيها عدالة الظاهر دون الباطن ، ويراعى في الشهادة عدالة الظاهر والباطن ، فلذلك ردت شهادة الكافر ، وإن صحت ولايته .
[ ص: 67 ] وأما الجواب عن استدلالهم بأنهم عدول : فهو أن كتاب الله الوارد بتكذيبهم يمنع من ثبوت عدالتهم .
وأما الجواب عن قياسهم على أهل البغي ، لأن فسقهم بتأويل : فهو أن من حكم بفسقه منهم لظهور الخطأ في تأويله ، لم تقبل شهادته ، ومن كان تأويل شبهته محتملا ، كانوا على عدالتهم وقبول شهادتهم .