فصل : ودليلنا من الكتاب قوله تعالى : "
أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ المائدة : 108 ] . أي : بعد الامتناع من الأيمان الواجبة ، فدل على
نقل الأيمان من جهة إلى جهة .
ويدل عليه من السنة ما رواه
زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
من طلب طلبه بغير بينة ، فالمطلوب أولى باليمين من الطالب " .
وروى
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
المطلوب أولى باليمين من الطالب .
فوجه الدليل من هذين الخبرين أن " أولى " . يستعمل حقيقة في الاشتراك فيما يترجح أحدهما على الآخر ، كقولك : زيد أفقه من عمرو ، إذا اشتركا في الفقه ، وزاد أحدهما على صاحبه .
ولا يقال : زيد أفقه فيمن ليس بفقيه ، إلا على وجه المجاز .
فلو لم يكن للطالب حق في اليمين لما جعل المطلوب أولى منه ، فيكون أولى في الابتداء ، وينقل عند امتناعه في الانتهاء .
ويدل عليه ما روى
الليث بن سعد ، عن
نافع ، عن
ابن عمر ،
أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب حق ، وهذا نص ذكره
أبو الوليد في المخرج ،
والدارقطني في اليمين مع الشاهد ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
للأنصار في دعوى القتل على
يهود خيبر : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925635تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا : لا ، قال : فيبرئكم يهود بخمسين يمينا " .
فدل هذا على نقل اليمين من جهة إلى جهة ،
وأبو حنيفة لا يراه ، ويدل عليه إجماع الصحابة . وروى
الشافعي ، عن
مالك ، عن
ابن شهاب ، عن
سليمان بن يسار ، أن رجلا من
بني سعد بن ثابت أجرى فرسا ، فوطئ على أصبع رجل من
جهينة ، فتألم منها دهرا ، ثم مات ، فتنازعوا إلى
عمر رضي الله عنه ، فقال للمدعى عليهم : تحلفون خمسين يمينا أنه ما مات منها ، فأبوا ، فقال للمدعين : احلفوا أنتم ، فأبوا .
وهذه قضية مشهورة في رد اليمين لم يظهر فيها مخالف .
[ ص: 142 ] وقد ردت اليمين على
عمر ، فحلف ، واستحق ، وردت على
زيد بن ثابت ، فحلف . وروي أن
المقداد اقترض من
عثمان بن عفان مالا ، قال
عثمان : هي سبعة آلاف ، فاعترف المقداد بأربعة آلاف ، وتنازعا إلى
عمر ، فقال
المقداد لعثمان : احلف إنها سبعة آلاف فقال له
عمر : لقد أنصفك ، فلم يحلف
عثمان ، فلما ولى
المقداد قال
عثمان : والله لقد أقرضته سبعة آلاف ، فقال له
عمر : لم لم تحلف قبل أولى ؟ فقال : وما علي أن أحلف ، والله إن هذه لأرض والله إن هذه لسماء ، فقال
عثمان : خشيت أن يوافق قدر بلاء ، فيقال : بيمينه .
وهذا مستفيض في الصحابة لم يظهر فيهم مخالف ، فثبت أنه إجماع .
فإن قيل : قد خالفهم
علي بن أبي طالب عليه السلام فيما روي أن رجلا ابتاع من رجل عبدا ، فأصاب به عيبا ، فترافعا إلى
شريح ، فقال للبائع : احلف ، فقال : أرد اليمين ، فقال
شريح : لا ، فقال
علي : قالون ، وهي كلمة رومية قيل : إن معناها جيد ، فصوب بها امتناع
شريح من رد اليمين ، فصار قائلا به ، ومنع هذا من انعقاد الإجماع . قيل : هذه كلمة لا تعرف العرب معناها ، لأنها ليست من لغتهم ، ولو أراد ما ذكر من معناها : لأفصح به ، ولعبر عنه بما يفهم منه ، على أن قوله : قالون بمعنى جيد ، يحتمل أن يريد به أن ما قاله
شريح جيد ، ويحتمل أن يريد به أن ما قاله البائع جيد ، فلم يكن فيه مع هذا الاحتمال ، ما يمنع من انعقاد إجماع قد انتفى عنه الاحتمال .