الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الصنائع فضربان : مسترذل وغير مسترذل .

فأما غير المسترذل كالزراعة والصناعة ، فغير قادح في العدالة ، لأنه مما لا يستغني الناس عن الاكتساب بصنائعهم ومتاجرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة ويكفره عرق الجبين في طلب الحرفة " .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله " .

فإن قيل : فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكذب الناس الصباغون والصواغون " .

قيل : هذا موقوف على أبي هريرة وليس بمسند ، لأنه سمع قوما يرجفون بشيء فقال : كذبة قالها الصباغون والصواغون .

وإن ثبت مسندا فقد اختلف أهل العلم في تأويله .

فقال بعضهم : لأنهم يعدون ويخلفون . وإخلاف الوعد كذب .

وقال آخرون : لأن الصباغين يسمون الألوان بما أشبهها فيقولون : هذا لون الشقائق ولون الشفق ولون النارنج .

والصواغون يسمون الأشكال بما يماثلها ، فيقولون : هذا زرع وهذا شجر ، وتسمية الشيء بغير اسمه كذب .

وقال آخرون : يريدون بالصباغين الذين يصبغون الكلام فيغيرون الصدق [ ص: 154 ] بالكذب ، لأن الصبغ تغيير اللون بغيره . ويريد بالصواغين الذين يصوغون الكلام . ومنهم الشعراء . لأنهم يكذبون في التشبيه والتشبيب .

فإن كانوا على التأويل الأول ردت به شهادتهم ، لأن مخالفة الوعد كذب . وإن كانوا على التأويل الثاني ، لم ترد به الشهادة ، لأن مخالفة الاسم استعارة ، وإن كانوا على التأويل الثالث ، ردت الشهادة في الصباغين ولم ترد في الصواغين إذا سلموا من الكذب .

وأما المسترذل من الصنائع فضربان :

أحدهما : ما كان مسترذلا في الدين كالمباشرين للأنجاس من الكناسين والزبالين ، والحجامين ، أو المشاهدين للعورات كالقيم والمزين .

والضرب الثاني : ما كان مسترذلا في الدنيا كالنسيج والحياكة ، وما يدنس برائحته كالقصاب والسماك ، فإن لم يحافظ هؤلاء على إزالة الأنجاس من أيديهم وثيابهم في أوقات صلواتهم وقصروا في حقوق الله تعالى عليهم ، كان ذلك جرحا في عدالتهم وقدحا في ديانتهم .

وإن حافظوا على إزالة النجاسة ، والقيام بحقوق العدالة ، ففي قدح ذلك في عدالتهم ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يقدح فيها ، لأن الرضا بها مع الاسترذال قدح .

والوجه الثاني : أنه لا يقدح في العدالة لأنه لا يجد الناس منها بدا . ولأنها مستباحة شرعا .

والوجه الثالث : أنه يقدح في العدالة منها ما استرذل في الدين . ولا يقدح فيها ما استرذل في الدنيا ، لا سيما الحياكة لكثرة الخير في أهلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية