القول في
الأنبذة وشهادة شاربها .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ومن شرب سواها من المنصف أو الخليطين ، فهو آثم ولا ترد شهادته إلا أن يسكر لأنه عند جميعهم حرام " .
قال
الماوردي : قد ذكرنا أن كل شراب أسكر فهو حرام ، كالخمر عندنا في تحريم ما أسكر منه وما لم يسكر ، وجعل مخالفنا تحريمه مقصورا على السكر ، فأحل قليله إذا لم يسكر ، وحرم فيه الكثير إذا أسكر ، وقد تقدم الكلام عليه .
فجميع الأنبذة المسكرة عندنا محرمة من أي الأنواع كانت ، من زبيب ، أو تمر ، أو رطب ، أو بسر ، أو عسل مطبوخة ونية .
وحرم
أبو حنيفة نيها وأباح مطبوخها .
فإذا
شرب نبيذا مسكرا ، فإن شرب منه ما أسكر ، فقد شرب حراما في قول
[ ص: 185 ] الجميع ، وصار به فاسقا مردود الشهادة ، وإن شرب منه ما لم يسكره فإن عاقر عليه أو تكلم بالخنا والهجر ردت شهادته .
وقال
محمد بن الحسن : لو عاقر على الماء كان حراما .
وإن لم يعاقر وشرب منه ما لم يسكر ، فله ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يعتقد تحريمه إما باجتهاد أو تقليد ، فيفسق بشربه ويحد ولا تقبل شهادته ، لإقدامه على ما يعتقده معصية ، فصار بإقدامه عاصيا .
والحال الثانية : أن يعتقد إباحته ، إما باجتهاد أو تقليد ، فمذهب
الشافعي يكون على عدالته ، ويحد ولا ترد شهادته .
وقال
مالك : قد فسق ، فيحد وترد شهادته .
وقال
المزني : لا ترد شهادته ولا يحد .
ومنعا جميعا من اجتماع الحد وقبول الشهادة ، فجعل
مالك وجوب الحد مسقطا للشهادة ، وجعل
المزني قبول الشهادة مسقطا للحد ، وفرق
الشافعي بينهما ، فأوجب الحد ولم يرد الشهادة ، لأن الحد من حكم الشرب للردع عنه ، ورد الشهادة بالفسق بالتفسيق في حكم المعصية ، والمعصية في تأويل ما اختلف أهل العلم فيه مرتفعة ، فلم يمتنع
اجتماع الحد وقبول الشهادة كالقاذف إذا تاب قبل الحد تقبل شهادته .
والحال الثالثة : إن شرب غير معتقد الإباحة ولا حظر ، مع علمه باختلاف أهل العلم في إباحتها وحظرها ، ففي فسقه ورد شهادته بعد وجوب الحد عليه وجهان لأصحابنا :
أحدهما : وهو مذهب
البصريين أنه فاسق مردود الشهادة ، لأن ترك الاسترشاد في الشبهات تهاون في الدين ، فصار فسقا .
والوجه الثاني : وهو مذهب
البغداديين أنه على عدالته وقبول شهادته ، لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من الشرب ، لأن من اعتقد إباحة الخمر كفر ، ومن شربها ولم يعتقد إباحتها لم يكفر ، فلما لم يفسق من اعتقد إباحة النبيذ وشربه ، فأولى أن لا يفسق من شربه ولا يعتقد إباحته .