القول في
شهادة أهل الغناء :
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " وإن كان يديم الغناء ويغشاه المغنون معلنا ، فهذا سفه ترد به شهادته ، وإن كان ذلك يقل لم ترد " .
قال
الماوردي : والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين :
أحدهما : في الغناء .
والثاني : في أصوات الملاهي .
وأما الغناء : فمن الصوت ممدود ، ومن المال مقصور ، كالهواء وهو من الجو ممدود ، ومن هوى النفس مقصور .
كتب إلي أخي من
البصرة وقد اشتد شوقه للقائي
ببغداد شعرا قال فيه :
طيب الهواء ببغداد يشوقني قدما إليها وإن عاقت مقادير فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت
طيب الهواءين ممدود ومقصور
اختلف أهل العلم في
إباحة الغناء وحظره ، فأباحه أكثر
أهل الحجاز وحظره أكثر
أهل العراق .
وكرهه
الشافعي وأبو حنيفة ومالك في أصح ما نقل عنهم ، فلم يبيحوه على الإطلاق ولم يحظروه على الإطلاق ، فتوسطوا فيه بالكراهة بين الحظر والإباحة .
واستدل من أباحه ، بما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه مر بجارية لحسان بن ثابت تغني وهي تقول :
هل علي ويحكما إن لهوت من حرج
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حرج إن شاء الله "
[ ص: 189 ] وروى
الزهري ، عن
عروة ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=925687عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كانت عندي جاريتان تغنيان ، فدخل أبو بكر ، فقال : أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعهما فإنها أيام عيد " .
وقال
عمر رضي الله عنه : " الغناء زاد المسافر " .
وكان
لعثمان جاريتان تغنيان في الليل ، فإذا جاء وقت السحر قال : أمسكا فهذا وقت الاستغفار ، وقام إلى صلاته .
ولأنه لم يزل
أهل الحجاز يترخصون فيه ويكثرون منه ، وهم في عصر الصحابة وجلة الفقهاء ، فلا ينكرونه عليهم ولا يمنعونهم منه إلا في إحدى حالتين :
إما في الانقطاع إليه ، أو الإكثار منه ، كالذي حكي أن
عبد الله بن جعفر كان منقطعا إليه ، ومكثرا منه ، حتى بدد فيه أمواله ، فبلغ ذلك
معاوية ، فقال
لعمرو بن العاص : قم بنا إليه ، فقد غلب هواه على شرفه ومروءته ، فلما استأذنا عليه وعنده جواريه ، يغنين فأمرهن بالسكوت ، وأذن لهما في الدخول ، فلما استقر بهما الجلوس ، قال
معاوية : يا عبد الله ، مرهن يرجعن إلى ما كن عليه ، فرجعن يغنين ، فطرب
معاوية حتى حرك رجليه على السرير ، فقال
عمرو : إن من جئت تلحاه أحسن حالا منك ، فقال
معاوية : إليك عني يا
عمرو ، فإن الكريم طروب .
وأما
أن يكون في الغناء ما يكره كالذي روي عن
سفيان بن عيينة ، وقد عاد
ابن جامع إلى
مكة بأموال جمة حملها من
العراق ، فقال لأصحابه : علام لعطاء ابن جامع هذه الأموال ؟ فقالوا : على الغناء ، قال : "
ابن جامع ماذا يقول فيه " ؟ قالوا : يقول :
أطـوف بالبيـت في مـن يطـوف وأرفـع مـن مـئـزري المسبــل
قال : هي السنة ، ثم ماذا يقول ؟ قالوا :
وأسجـد بالليـل حتى الصباح وأتلـو من المحكـم المنزل
قال : أحسن وأصلح ، ثم ماذا ؟ قالوا :
عسـى فـارج الهـم عن يوسـف يسخـر لـي ربة المحمــل
قال : أفسد الخبيث ما أصلح لا سخر الله له .
[ ص: 190 ] واستدل من حظره بقوله تعالى :
والذين لا يشهدون الزور [ الفرقان : 72 ] .
وفيه أربعة تأويلات : -
أحدها : الغناء . قاله
مجاهد .
والثاني : أعياد أهل الذمة ، قاله
ابن سيرين .
والثالث : الكذب ، قاله
ابن جريج .
والرابع : الشرك ، قاله
الضحاك رحمه الله .
وقال تعالى :
وإذا مروا باللغو مروا كراما [ الفرقان : 72 ] . وفيه ثلاث تأويلات :
أحدها : إذا ذكروا الفروج والنكاح كنوا عنها .
والثاني : إذا مروا بالمعاصي أنكروها ، قاله
الحسن .
والثالث : إذا مروا بأهل المشركين أنكروه ، قاله
عبد الرحمن بن زيد .
وقاله تعالى :
ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] الآية . وفي " لهو " أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الغناء ، قاله
ابن مسعود ،
وابن عباس ،
وعكرمة ،
وسعيد بن جبير ،
وقتادة .
والثاني : أنه شراء المغنيات .
وروى
القاسم بن عبد الرحمن ، عن
أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925688لا يحل بيع المغنيات ، ولا شراؤهن ، ولا التجارات فيهن ، وأثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث " .
والثالث : أنه شراء الطبل والمزمار ، قاله
عبد الكريم .
والرابع : أنه ما ألهى عن الله تعالى ، قاله
الحسن .
وفي قوله تعالى :
ليضل عن سبيل الله [ لقمان : 6 ] . تأويلان :
أحدهما : ليمنع من قراءة القرآن ، قاله
ابن عباس .
والثاني : ليصد عن سبيل الله . حكاه
الطبري .
وفي قوله " بغير علم " : تأويلان .
[ ص: 191 ] أحدهما : بغير حجة .
والثاني : بغير رواية .
وفي قوله تعالى :
ويتخذها هزوا [ لقمان : 16 ] . تأويلان :
أحدهما : تكذيبا .
والثاني : استهزاء بها .
ومن السنة ما رواه
ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925689الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل " .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
الغناء نهيق الشيطان " .
وقال صلى الله عليه وسلم : "
أنهاكم عن صوتين فاجرين : الغناء ، والنياحة " .
وقال بعض السلف : الغناء رقية الزنى .
وإذا تقابل بما ذكرنا ، دلائل الحظر والإباحة ، يخرج منها حكم الكراهة . فلم يحكم بإباحته ، لما قابله من دلائل الحظر والإباحة ، ولم نحكم بحظره لما قابله من دلائل الإباحة ، " فصار يتردده بينهما مكروها غير مباح ولا محظور .
وروي أن رجلا سأل
ابن عباس عن الغناء : أحلال هو ؟ قال : لا ، قال : أحرام هو ؟ قال : لا ، يريد أنه مكروه لتوسطه بين الحلال والحرام . والله أعلم .