[ القول في حكم الشعر ] .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : (
والشعر كلام ، فحسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيحه ، وفضله على الكلام أنه سائر ، وإذا كان الشاعر لا يعرف بشتم الناس
[ ص: 203 ] وأذاهم ولا يمتدح ، فيكثر الكذب المحض ، ولا يتشبب بامرأة بعينها ، ولا يشهرها بما يشينها ، فجائز الشهادة ، وإن كان على خلاف ذلك ، لم تجز " .
قال
الماوردي : واختلف الناس في
شهادة الشاعر إذا صار بالشعر مشهورا وإليه منسوبا ، فمنع قوم من قبولها ، وجعلوا توفره على الشعر جرحا ، تمسكا بقوله تعالى :
والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ الشعراء : 224 ] .
ولحديث
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925714لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا .
والذي عليه جمهور أهل العلم أن قرض الشعر وإنشاده إذا كان سليما ليس بجرح ، وشهادة من انتسب إليه مقبولة ، على ما سنوضحه من شرح وتفصيل لرواية
عبد الرحمن بن زياد ، عن
عبد الرحمن بن رافع ، عن
عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .
وروي عن
عصمة بن عبد الله ، عن
هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925716إن من الشعر حكمة . وإن من البيان سحرا وإن أصدق بيت قالته العرب :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وفد عليه الشعراء ، فأنشدوه ومدحوه ، وأثاب عليه ، ولم ينه عنه ، فمنهم
أعشى بن حرماز وفد عليه وأنشده ما امتدحه به فقال :
يا مالك الأرض وديان العرب إليك أشكو حقبة من الحقب
إلى أن انتهى إلى شكوى امرأته :
[ ص: 204 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهن شر غالب لمن غلب
ومنهم
كعب بن زهير وكان قد هدر الله دمه ، فورد إلى
المدينة مستخفيا ، فقام إليه بعد صلاة الصبح ممتدحا فقال :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
إلى أن انتهى إلى قوله :
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
فقام
علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال :
يا رسول الله هذا كعب بن زهير ، فاضرب عنقه . فقال : " لا ، دعه فإنه قد أسلم " وأعطاه بردة كانت عليه ، فابتاعها منه
معاوية بن أبي سفيان بعشرة آلاف درهم ، وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم .
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء ، منهم
حسان بن ثابت ،
وكعب بن مالك ،
وعبد الله بن رواحة ، وكانوا ينشدون الشعر تارة ابتداء ويأمرهم به أخرى ليردوا على من هجاه ، كما قال
حسان بن ثابت :
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم بقاء
[ ص: 205 ] واستنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريد من شعر
أمية بن أبي الصلت ، وأنشده منه مائة بيت .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد
قس بن ساعدة بعكاظ على جمل أشهب ، وهو يقول : أيها الناس من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت . ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالإقامة فأقاموا ، أم تركوا هنالك فناموا . إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا سقف مرفوع وسهال موضوع . وبحار بحور ، وتخوم تخور ثم تغور . أقسم قس بالله قسما : إن لله لدينا هو أرضى من دين نحن عليه ، ثم تكلم بأبيات شعر ما أدري ما هي . فقال
أبو بكر رضي الله عنه : قد كنت شاهدا ذاك والأبيات عندي . فقال : أنشدنيها : فأنشده
أبو بكر رضي الله عنه .
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها تمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين عابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
وقد أنشد صلى الله عليه وسلم شعر طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزوده الأخبار
فقال
أبو بكر إنه قال :
[ ص: 206 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال صلى الله عليه وسلم : "
ما لي وللشعر وما للشعر ولي " يريد ما قاله الله فيه عز وجل : "
وما علمناه الشعر وما ينبغي له " وقال صلى الله عليه وسلم :
تفاءل بما ترجو يكن فلقلما . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فقال
علي عليه السلام :
بما ترجوه ألا تكونا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فصار بما تممه علي شعرا منتظما .
واستوقفته
قتيلة بنت النضر بن الحارث عام الفتح ، بعد قتل أبيها صبرا فأنشدته :
أمحمد ها أنت خير نجيبة من قومها والفحل فحل معرق
النضر أقرب من قتلت قرابة وأحقهم إن كان عتقا يعتق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
لو سمعت شعرها ما قتلته " .
وقد كان كثير من الصحابة يقولون الشعر ويتمثلون بأشعار العرب ، فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد استشهد
عبد الله بن عباس فيما سأله
نافع بن الأزرق في معاني القرآن بأشعار العرب ، ودل به على معانيه وقال : الشعر ديوان العرب ، فما أنكره أحد منهم من الصحابة والتابعين .
[ ص: 207 ] وسئل
ابن عباس عن أول الناس إسلاما ، فقال :
أبو بكر ، أما سمعت قول
حسان بن ثابت إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني اثنين والمحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا
وحبس
عمر رضي الله عنه
الحطيئة الشاعر ، فأرسل إليه من الحبس شعرا يقول
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقت عليك مقاليد النهى البشر
ما يؤثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فلما وصل إليه هذا الشعر أطلقه وقال : إن الشعر ليستنزل الكريم .
فإذا كان الشعر في الصحابة بهذه المثابة ، وكان الشعراء منهم بهذه المنزلة ، لم يجز أن يكون جرحا في قائله ولا منشده ، لأنهم لا يأتون منكرا ولا يقرون عليه .
وقد مر
الزبير بن العوام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
بحسان بن ثابت وهو ينشد شعره أحداثا من
الأنصار وهم معرضون عنه ، فقال : أتعرضون عنه ، وقد كان رسول الله يقبل عليه إذا أنشده ، فنهض
حسان وقبل يد
الزبير .
وقيل
لسعيد بن المسيب : إن قوما يكرهون إنشاد الشعر في المسجد ، فقال : هؤلاء ينسكون نسكا أعجميا .
وروى
أبو بكربن سيف في مختصر
المزني عنه ، وقال : سألته أيجوز للرجل أن يتزوج المرأة ويصدقها شعرا ؟ فقال : إن كان كقول الشاعر :
يود المرء أن يعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما أفادا
جاز ، فدل ما وصفنا ، وإن مع الإطالة بيسير ، أن إنشاء الشعر وإنشاده مباح ، وإنشاء الشعر ما كان من قوله . وإنشاده ما كان من قول غيره .
[ ص: 208 ] فأما
قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون [ الشعراء : 224 ] . فقد قال أهل التأويل : يريد بالشعراء ، الذين إذا قالوا كذبوا وإذا غضبوا سبوا .
وفي قوله تعالى :
يتبعهم الغاوون ) أربعة تأويلات :
أحدها : الشياطين ، قاله
مجاهد .
والثاني : المشركون ، قاله
عبد الرحمن بن زيد .
والثالث : السفهاء ، قاله
الضحاك .
والرابع : الرواة ، قاله
ابن عباس .
وفي
قوله تعالى : ألم تر أنهم في كل واد يهيمون [ الشعراء : 225 ] . ثلاث تأويلات :
أحدها : في كل فن من الكلام يأخذون ، قاله
ابن عباس .
والثاني : في كل لغو يخوضون ، قاله قطرب .
والثالث : أن يمدح قوما بباطل ، ويذم قوما بباطل ، قال
قتادة وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ الشعراء : 226 ] . يعني من كذب في مدح أو هجاء .
فلما نزلت هذه الآية حضر
عبد الله بن رواحة ،
وكعب بن مالك ،
وحسان بن ثابت ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكوا وقالوا : هلكنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ الشعراء : 227 ] . فقرأها عليهم : وقال : هم أنتم .
وذكروا الله كثيرا فيها وجهان :
أحدهما : في شعرهم .
والثاني : في كلامهم .
وانتصروا من بعد ما ظلموا أي : ردوا على المشركين ما هجوا به المسلمين ، فدلت الآية على أن المذموم من الشعر ما فيه من هجو : والهجو في الكلام مذموم فكيف في الشعر ، ولأن الشعر يحفظه نظمه ، فينتشر ويبقى على الأعصار والدهور .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925714لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه ، خير من أن يمتلئ شعرا " ففيه وجهان :
أحدهما : ما كان من الشعر كذبا وفحشا وهجاء .
والثاني : أنه ينقطع إليه ويتشاغل عن القرآن وعلوم الدين .