[ القول في
شهادة الوارث بدين على المورث ] .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو
ترك الميت ابنين ، فشهد أحدهما على أبيه بدين ، فإن كان عدلا ، حلف المدعي وأخذ الدين من الاثنين ، وإن لم يكن عدلا ، أخذ من يدي الشاهد بقدر ما كان يأخذه منه لو جازت شهادته ، لأن موجودا في شهادته أن له في يديه حقا ، وفي يدي الجاحد حقا ، فأعطيته من المقر ولم أعطه من المنكر " .
قال
الماوردي : وصورتها في رجل
ادعى دينا على ميت ، وورثه ابنان له ، فصدقه أحدهما وكذبه الآخر ، فالمصدق مقر والمكذب منكر وللمقر حالتان :
إحداهما : أن يكون عدلا ، فيجوز أن يشهد للمدعي بدينه في حق أخيه المنكر مع شاهد آخر ، أو مع يمين المدعي ، ولا يكون الإقرار شهادة حتى يستأنفها بلفظ الشهادة ، لأن لفظ الإقرار لا يكون شهادة ، وشهادته تكون على أبيه دون أخيه ، لوجوب الدين على الأب .
ومنع
الحسن بن زياد اللؤلؤي من قبول شهادته لما يتوجه إليه من التهمة في استدراك إقراره .
ومذهب
الشافعي وأبي حنيفة ، وجمهور الفقهاء أن شهادته مقبولة ، لأنها موافقة لإقراره فانتفت التهمة عنه ، فلم تمنع من الشهادة على أبيه وإن منع من الشهادة له ، فإذا صحت الشهادة استحق صاحب الدين جميع دينه من أصل التركة نصفه يستحقه بالإقرار في حق المصدق ، ونصفه يستحقه بالشهادة في حق المنكر .
والحال الثانية : أن يكون المقر غير عدل ، أو يكون عدلا لم تكمل به الشهادة
[ ص: 216 ] لعدم غيره ، أو لأن الحاكم لا يرى الحكم باليمين والشاهد ، أو يراه فلا يحلف معه المدعي ، فالحكم في هذه الأحوال الثلاثة على سواء .
ومذهب
الشافعي المنصوص عليه في جميع كتبه ، وهو قول
أهل الحجاز ، أنه يأخذ من المقر من الدين بقدر حقه ، وهو النصف ، ويحلف المنكر على النصف الآخر ويبرأ ، ويمينه على العلم دون البت . ويقول : والله لا أعلم أن له على أبي ما ادعاه أو شيئا منه .
وقال
أبو حنيفة وأكثر
أهل العراق : يلزم المقر جميع الدين .
وكان
أبو عبيد بن حرثون وأبو جعفر الإستراباذي وهما من متأخري أصحاب
الشافعي : يخرجان هذا قولا ثانيا
للشافعي ، فخالفهما من أصحاب
الشافعي أكثرهم ، ووافقهما أقلهم ، وجعلوه تخريجا من مقتضى نص ، وليس بتخريج من نص ، وهو أن
الشافعي يقول : إذا حلف أحد الابنين في القسامة ، فاستحق بأيمانه نصف الدية ، وكان على المقتول دين ، قضى جميعه من حصة الابن الحالف ، كذلك في هذه المسألة ، فخرجوها لأجل ذلك على قولين :
واختلف من أنكر تخريج هذا القول في ما قاله في القسامة على وجهين :
أحدهما : أنه محمول على أن الذي استحقه أحد الابنين بأيمانه ، كان جميع التركة ، فأخذ جميع الدين منه ، ولو ترك الميت غيره ما لزمه من الدين إلا نصفه .
والوجه الثاني : أنه محمول على أن أخاه معترف بالدين ، فاستحق باعترافهما جميع الدين ، وعجل قضاؤه من الذمة لتأخير غيره ليرجع على أخيه بقدر حقه ، ولو كان الأخ منكرا لم يؤخذ من المقر إلا قدر حقه .
واستدل
أبو حنيفة ومن وافقه على وجوب الدين كله على المقر بقوله تعالى :
من بعد وصية يوصي بها أو دين [ النساء : 12 ] .
فجعل للوارث ما فضل عن الدين والوصية ، فوجب أن لا يرث إلا بعد قضاء جميعه ، لأن صاحب الدين مقدم وليس بمشارك .
ولأن ما يأخذه المنكر من التركة كالمغصوب في حق الدين ، وغصب بعض التركة موجب لقضاء الدين من باقيها ، فلزم أخذ جميعه منه .
والدليل على أن على المقر منهما نصف الدين دون جميعه ، هو أن الدين مستحق
[ ص: 217 ] في جميع التركة غير معين في بعضها ، وليس مع المقر إلا نصفها ، فلم يلزمه من الدين إلا نصفه كالمقرين .
ولو أنه
لو لزم المقر جميع الدين ، لم تقبل شهادته على أخيه ، لأنه يدفع بها عن نفسه تحمل جميع الدين وفي موافقة
أبي حنيفة على قبول شهادته ، وإن خالفه
الحسن بن زياد اللؤلؤي في قبولها ، دليل على أنه لا يلزمه في الدين إلا قدر حقه لتسلم شهادته عن جر نفع ودفع ضرر .
ولأن أحد الابنين لو ادعى دينا لأبيه على منكر ، فرد اليمين عليه وحلف ، لم يستحق من الدين إلا نصفه ، وكذلك إذا أقر بدين على أبيه لم يلزمه إلا نصفه ، لأن ما للأب من الدين في مقابلة ما عليه من الدين .
والأصح من إطلاقها عندي ، أن ينظر في التركة . فإن لم يقتسم لها الابنان حتى أقر أحدهما بالدين ، قضى جميعه منها ، فكان محسوبا من حق المقر دون المنكر .
وإن
اقتسم الابنان التركة ، ثم أقر أحدهما بالدين . لم يلزمه منه إلا نصفه لأن المقر معترف باستحقاق جميع الدين في جميع التركة .
فصار قبل القسمة مقرا بجمعه وبعد أخذ النصف بالقسمة مقرا بنصفه . والله أعلم .