فصل : فإذا ثبت أن الحكم بها مردود ، فقد اختلف أصحابنا ، هل يقع باطلا لا يفتقر إلى الحكم بنقضه ، أو يكون موقوفا على وجوب الحكم بنقضه ؟ بحسب اختلافهم في المانع من الحكم به .
فمن جعل دليل رده نصا أو إجماعا ، جعله باطلا لا يفتقر إلى الحكم بنقضه ، لكن على الحاكم أن يظهر بطلانه لما قدمه من ظهور نفوذه "
ومن جعل رده قوة الاجتهاد في شواهده ، جعله موقوفا على وجوب الحكم لا بنقضه لأن غيره شواهده معلومة بالاجتهاد فصار موقوفا على الحكم بنقضه وهذا هو الظاهر من مذهب
الشافعي رضي الله عنه لأنه قال من بعد : ورد شهادة العبد إنما هو بتأويل .
وليس بتحريف السجل نقضا للحكم حتى ينقضه بالحكم قولا ، ووجب عليه أن يسجل بالنقض كما أسجل بالحكم ليكون السجل الثاني مبطلا للسجل الأول ، كما صار الحكم الثاني ناقضا للحكم الأول ، فإذا لم يكن قد أسجل الحكم لم يلزمه الإسجال بالنقض ، وإن كان الإسجال به أولى .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ منه بشهادة العبد وذلك أن الله جل ثناؤه قال
وأشهدوا ذوي عدل منكم وقال
ممن ترضون من الشهداء وليس الفاسق بواحد من هذين ، فمن قضى بشهادته فقد خالف حكم الله ورد شهادة العبد إنما هو تأويل وقال في موضع آخر إن طلب الخصم الجرحة أجله بالمصر وما قاربه فإن لم يجئ بها أنفذ الحكم عليه ثم إن جرحهم بعد لم يرد عنه الحكم ( قال
المزني : ) قياس قوله الأول أن يقبل الشهود العدول أنهما فاسقان كما يقبل أنهما عبدان ومشركان ويرد الحكم " .
قال
الماوردي : اعلم أنه لا خلاف في رد
شهادة الفاسق بالنص ، فإذا حكم بشهادة شاهدين ثم بان له فسقهما ، فإن كان الفسق طارئا أمضى الحكم بشهادتهما ، فهو على صحته ونفاذه .
وإن كان الفسق متقدما قبل إمضاء الحكم بشهادتهما ، فمذهب
الشافعي المنصوص عليه في جميع كتبه ، أن الحكم بشهادتهما مردود ، وأن الفسق أسوأ حالا من الرق ، لأن خبر العبد مقبول وخبر الفاسق مردود .
[ ص: 273 ] ونقل
المزني في هذا الموضع عن
الشافعي : أن الحاكم إذا أطرد المشهود عليه جرح الشهود مدة إطراده ، فلم يأت بالجرح ، فأمضى الحكم عليه بشهادتهما ، ثم أتى بعد إمضاء الحكم عليه ببينة الجرح ثم كان حكمه عليه ماضيا ، وظاهر هذا أنه قول بأن الحكم لا ينقض بشهادة الفاسق .
واختلف أصحابنا في صحة تخريجه :
فمذهب
المزني وأبو العباس بن سريج تخريجه قولا ثانيا ، وجعلوا نقض الحكم بشهادة الفاسق على قولين :
أحدهما : ينقضه ، وهو النص .
والقول الثاني : لا ينقضه ، وهو المخرج وبه قال
أبو حنيفة .
وذهب
أبو إسحاق المروزي وجمهور أصحاب
الشافعي إلى المنع من تخريجه قولا ثانيا ، وأنه لا يجيء على مذهب
الشافعي إلا ما نص عليه وصرح به من نقض الحكم بشهادته قولا واحدا .
وأجابوا عما نقله
المزني ، فيمن أطرده الحاكم بجرح شهوده فأحضر بينة الجرح بعد انقضاء زمانه ونفوذ حكمه بجوابين :
أحدهما : أنه لم ينقضه ، لأن الخصم أقام بينة بفسق الشهود مطلقا ، ولم يشهدوا بفسق الشهود قبل الحكم ، فلم ينقضه لجواز حدوثه بعد نفوذ الحكم بها حتى يعينوا أنه كان فاسقا قبل الشهادة أو بعدها وقبل نفوذ الحكم بها فينقضها .
وأن الجواب الثاني : أنه محمول على أن الخصم عجز عن بينة الجرح عند اطراده فحكم عليه ، ثم عاد يسأل الحاكم إطراده ثانية ، ولا يجوز أن يطرده الجرح بعد إبطال الإطراد ، لأن الإطراد يوجب نقض الحكم عليه ، والحكم قد نفذ ، فلا يجوز أن يعاد إلى الوقف على الإطراد .
فإن
بان للحاكم الفسق من غير إطراد الخصم ، بأن قامت عنده البينة بأنه شرب خمرا أو قذف محصنا قبل شهادته ، نقض الحكم بها ، فبان أن مذهب
الشافعي رحمه الله نقض الحكم بشهادة الفاسق من غير أن يختلف قوله فيه كما ينقضه بشهادة العبد والكافر .
وقال
أبو حنيفة : لا ينقض الحكم بشهادة الفاسق ، وإن نقضه بشهادة العبد والكافر استدلالا بأن الرق والكفر مقطوع بهما والفسق مجتهد فيه ، فجاز نقضه بالمقطوع به كما ينقض بمخالفة النص ، ولم يجز أن ينقض بمجتهد فيه ، لأن الحكم إذا نفذ بالاجتهاد لم ينقض بالاجتهاد .
[ ص: 274 ] والدليل على نقض الحكم بفسقه كما ينقض برقه شيئان :
أحدهما : أن اشتراط العدالة نص ، واشتراط الحرية اجتهاد ، فإن نقض الحكم بمخالفة المشروط بالنص لاجتهاد ، كان أولى أن ينقض لمخالفة المشروط بالنص .
والثاني : أن العبد مقبول الخبر ، والفاسق مردود الخبر ، والشهادة كالخبر ، فلما نقض الحكم بشهادة من يقبل خبره ، كان أولى أن ينقض بشهادة من يرد خبره .
وأما الجواب عن قوله : إن الرق مقطوع به والفسق مجتهد فيه ، فهو أنهما إذا صارا معلومين ، صار الرد بالفسق مقطوعا به ، والرد بالرق مجتهدا فيه ، فكان بالعكس أحق .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " إذا أنفذ القاضي بشهادتهما قطعا ثم بان له ذلك لم يكن عليهما شيئ : لأنهما صادقان في الظاهر ، وكان عليه أن لا يقبل منهما ، فهذا خطأ منه تحمله عاقلته " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح إذا وجب
نقض الحكم برد الشهادة إما لفسق أو لرق أو كفر ، فسواء ، ولا يخلو الحكم من أن يفضي إلى استهلاك أو لا يفضي .
فإن لم يفض إلى استهلاك لم يتعلق بنقضه ضمان ، وكان نقضه معتبرا بالحكم .
فإن كان في عقد
نكاح عقد بشاهدين فبانا عبدين ، أو كافرين ، أو فاسقين ، افتقر ، إلى حكم الحاكم بنقضه ، لأن
مالكا يجيز عقد النكاح بغير شهود إذا أعلن .
وإن كان في إثبات نكاح اختلف فيه الزوجان ، فإن بان فسق الشاهدين حكم بنقضه ولم ينقض بظهور فسقهما إلا أن يحكم به لخلاف
أبي حنيفة فيه وفرق بين الزوجين فيه بعد يمين الزوجة المنكرة .
وإن بان كفر الشاهدين أظهر نقض الحكم ولم يفتقر نقضه إلى حكم لوقوعه منتقضا لرد شهادتهما بالنص المجمع عليه .
وإن بان رق الشاهدين ، فهل يفتقر نقضه إلى الحكم به أم لا ؟ على وجهين مبنيين على الاختلاف في شهادته ، هل ردت بظاهر نص ، أو إجماع عن ظاهر اجتهاد ظاهر أو على ما قدمنا .
وهكذا في كل حكم نفذ بشهادتهم يكون الحكم بنقضه معتبرا بأحوال شهوده في اختلافهم في الوجوه الثلاثة في الرق والكفر والفسق فيحتاج إلى الحكم بنقضه في الفسق ، ولا يحتاج إلى الحكم بنقضه في الكفر ، وفي احتياجه إلى الحكم بحقه في الرق وجهان .
[ ص: 275 ] وإن كانت الشهادة بنقضه في طلاق فرق فيه بين الزوجين ، وقع ما أوقعه من الطلاق وجمع بين الزوجين بعد يمين الزوج المنكر .
وإن كانت الشهادة في عتق أنفذ بها حرية العبد ، حكم برقه وبقائه على ملك سيده ، ويملك اكتتابه بعد يمين السيد في إنكار عتقه .
وإن كانت الشهادة على نقل ملك من دار أو عقار ، حكم بإعادته على المشهود عليه مع أجرة مثله بعد يمينه على إنكاره ، فإن طلب إعادة الدار إلى يده ليحلف بعد ردها عليه ، وجب على الحاكم أن يرفع عنها يد المشهود له ، لبطلان بينته ولا يأمر بردها على المشهود عليه ، لأن أمره بالرد حكم له بالاستحقاق ولا يمنعه منهما ، لأن منعه حكم عليه بإبطال الاستحقاق ، ويخلى بينه وبينهما من غير حكم بات ، وهذا بخلاف الطلاق والعتق الذي لا يجوز التمكين منهما إلا بعد اليمين لما فيها من حقوق الله تعالى .
وإن كانت الشهادة في دين حكم بقضائه ، فإن كان ماله بعد قضائه باقيا في يد المشهود له حكم برده على المشهود عليه بعينه ولم يعدل عنه إلى بدله ، وإن استهلكه المشهود له ، أخذ برد مثله ، فإن أعسر به أقرضه الحاكم عليه من بيت المال ليكون دينا عليه في ذمته يؤديه إذا أيسر به ويدفعه إلى المشهود عليه بدلا من المأخوذ منه .