فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من جواز الشهادة بالعتق الناجز عن الأضرب الثلاثة فهو إذا ثبتت عدالة الأجنبيين وعدالة الوارثين .
فإن
ثبتت عدالة الوارثين وفسق الأجنبيين ، بطل عتق من شهد له الأجنبيان ورق جميعه ، ونفذ عتق من شهد له الوارثان وتحرر جميعه .
وإن ثبتت عدالة الأجنبيين وفسق الوارثين ، عتق جميع من شهد له الأجنبيان ، فبطلت شهادة الوارثين وصارا بعد رد الشهادة مقرين وإقرارهما بالعتق الناجز مخالف لإقرارهما بالوصية بالعتق : لأن الإقرار بالعتق الناجز موجب لزوال الملك ، والإقرار بالوصية بالعتق غير موجب لزوال الملك ، فلذلك لم يلزمهما في الوصية بالعتق غير ما أوجبته الشهادة لدخوله في ميراثهما بعد إقرارهما ولزمهما في العتق الناجز غير ما أوجبته الشهادة لإقرارهما بخروجه عن ميراثهما بعد إقرارهما ، وإذا كان كذلك لم يخل حالهما بعد أن صارا برد الشهادة مقرين من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يصدقا الأجنبيين على شهادتهما ، فيلزمهما بعد استيعاب الثلث بشهادة الأجنبيين ما كان يلزم في التركة لو أمضيت شهادتهما مع الأجنبيين ويختلف ذلك باختلاف الأضرب الثلاثة :
فإن كان في الضرب الأول : أن تدل الشهادتان على تقدم عتق أحدهما على الآخر وتعيين المتقدم على المتأخر ينظر :
فإن كان عتق المتأخر بشهادة الأجنبيين ، عتق في التركة بشهادتهما وعتق المتقدم على الوارثين بإقرارهما .
[ ص: 281 ] وإن كان عتق المتقدم بشهادة الأجنبيين ، عتق في التركة بشهادتهما ولم يعتق المتأخر على الوارثين مع إقرارهما ، لأنه يرق ولو قبلت شهادتهما ، لأن المستحق في الشهادتين عتق المتقدم دون المتأخر .
وإذا كان ذلك في الضرب الثاني أن تدل الشهادتان على وقوع عتقهما معا في حالة واحدة يقرع بينهما عتق في التركة من شهد بعتقه الأجنبيان ، ولم يعتق على الوارثين من شهدا بعتقه ، لأن شهادتهما لو قبلت لأوجبت الإقراع بين العبدين ، ولو أقرع بينهما جاز أن تقع القرعة على من شهد له الأجنبيان ويرق من شهد له الوارثان ، فترددت حاله مع صحة الشهادتين بين الرق والعتق ، فلم يلزم أن يتعين فيه العتق مع الرق .
وإذا كان ذلك في الضرب الثالث : أن تدل الشهادتان على تقدم أحدهما على الآخر ويشكل المتقدم والمتأخر ، وهو مبني على ما ذكرنا فيهما من القولين :
فإن قيل : إنه يقرع بينهما مع صحة الشهادتين ، لم يعتق على الوارثين من شهدا بعتقه وعتق في التركة من شهد الأجنبيان بعتقه ، لأن دخول القرعة بينهما مع صحة الشهادتين لا توجب تعيين العتق في شهادة الوارثين .
وإن قيل بالقول الثاني : إنه يعتق من كل واحد منهما نصفه مع صحة الشهادتين عتق في التركة جميع من شهد له الأجنبيان ، وعتق على الوارثين نصف من شهدا له ، لأنه قد كان يعتق نصفه مع صحة شهادتهما فوجب أن يعتق مع ردها ، بإقرارهما .
والحال الثانية : أن يقدح الوارثان في شهادة الأجنبيين بتكذيبهما ، فيعتق جميع العبدين أحدهما بشهادة الأجنبيين والآخر بإقرار الوارثين في الأضرب الثلاثة ، لأن الوارثين مقران أنه لم يعتق غير من شهدا بعتقه ، فألزمناهما عتقه بإقرارهما ، وقد شهد الأجنبيان بعتق غيره فأعتقناه بشهادتهما
والحال الثالثة : أن يختلف الوارثان في تصديق الأجنبيين فيصدقهما أحد الوارثين ويكذبهما الآخر ، فيلزم المصدق ما كان يلزمه مع أخيه لو صدق ، ويلزم المكذب ما كان يلزمه مع أخيه لو كذب .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو
شهد الوارثان أنه رجع عن عتق الأول وأعتق الآخر أجزت شهادتهما ، وإنما أرد شهادتهما فيما جرا إلى أنفسهما ، فإذا لم يجرا ، فلا ، فأما الولاء فلا يملك ملك الأموال ، وقد لا يصير في أيديهما بالولاء شيء ، ولو أبطلتهما بأنهما يرثان الولاء إن مات لا وارث له غيرهما أبطلتها لذوي أرحامهما " .
[ ص: 282 ] قال
الماوردي : وهذه المسألة مصورة في الوصية بالعتق وفيها دليل على أن المراد بالأولى الوصية بالعتق ، ولا يمنع ذلك أن يذكر حكم العتق الناجز والموصى به جميعا .
والزيادة في هذه المسألة أن
يشهد أجنبيان أنه أوصى بعتق عبده سالما قيمته الثلث ، ويشهد وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم وأوصى بعتق غانم وقيمته الثلث . ويشهد وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم وأوصى بعتق غانم ردت شهادتهما وإن كانا عدلين ، ولا ترد فيه شهادة الأجنبيين للحوق التهمة بالوارثين لعوده إلى ميراثهما .
فأما إذا شهدا أنه رجع عن الوصية بعتق سالم وأوصى بعتق غانم وهي في القيمة سواء قبلت شهادتهما في الرجوع عن الوصية بعتق سالم وفي الوصية بعتق غانم .
وزعم بعض العراقيين أنها تقبل في الوصية بعتق غانم ولا تقبل في الرجوع عن عتق سالم لأمرين :
أحدهما : أنها لما ردت في الرجوع لو انفردت ردت فيه إذا اقترنت بغيره .
والثاني : لدخول التهمة عليه من وجهين :
أحدهما : أن يكون سالم أكثر كسبا فيتملكاه .
والثاني : أن يكون غانم لا وارث له غيرهما فيرثاه ، وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أنهما لو شهدا بالوصية ولم يشهدا بالرجوع صحت شهادتهما وتعين العتق بالقرعة في أحدهما ، فجاز أن يتعين فيه بشهادتهما .
والثاني : أن الواجب بالوصية إخراج الثلث من العتق ، وشهادتهما بالرجوع لا يمنع منه ، لأن تعيينه في أحدهما ينفي التهمة عنهما من وجهين :
أحدهما : أن المعتبر هو القيمة وقد التزماها .
والثاني : أن ما ظن بهما من طلب الكسب والميراث ليس بموجود في الحال وقد يكون من بعد وقد لا يكون ، فلم يجز أن يعتبر به التهمة في الحال ، وقال
الشافعي : " لو أبطلت شهادتهما لذلك لأبطلتها لذوي أرحامهما " .