فصل : وإذا
تنازع المكري ، والمكتري ، في شيء من آلة الدار ، وادعاه كل واحد منهما ملكا ، لنفسه انقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يكون القول فيه قول المكري ، وهو كل ما كان متصلا بالدار من آلاتها ، كالأبواب ، والدهليزات ، والرفوف المتصلة ، والسلاليم المسمرة ، فالقول في ملكها قول المكري ، مع يمينه لاتصالها بالدار التي هو مالكها .
والقسم الثاني : ما يكون القول فيه قول المكتري مع يمينه ، وهو قماش الدار وفرشها من البسط ، والحصر ، والصناديق ، لأنه من آلة السكنى والمكتري أحق بالسكنى .
والقسم الثالث : ما يتحالفان عليه ، وهو ما كان من آلة الدار منفصلا عن الدار كالرفوف ، والسلاليم المنفصلة ، وإغلاق الأبواب ، وأطباق التنانير فالعرف فيها متقابل ، واليد فيه مشتركة ، فيجعل بينهما بعد تحالفهما .
ولو كانت منشأة بين نهر وضيعة ، فادعاها صاحب الماء وقال : هي الجامعة لماء نهري ، وقال صاحب الضيعة : هي المانعة للماء عن ضيعتي ، فهما فيها متساويان ، فيتحالفان عليها ، وتجعل بعد الأيمان بينهما والله أعلم .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو ادعى دارا في يدي رجل ، فقال : ليست بملك لي ، وهي لفلان ، فإن كان حاضرا صيرتها له ، وجعلته خصما عن نفسه ، وإن كان غائبا كتب إقراره ، وقيل للمدعي أقم البينة ، فإن أقامها قضى بها على الذي هي في يديه ، ويجعل في القضية أن المقر له بها على حجته ، ( قال
المزني ) رحمه الله : قد قطع بالقضاء على غائب وهو أولى بقوله " .
قال
الماوردي : وصورتها في
دار في يدي رجل ، يتصرف فيها فادعاها عليه رجل ، وقال : هي لي فقال صاحب اليد : ليست هذه الدار لي ، وهي لغيري فله حالتان :
إحداهما : أن يذكر اسم من جعلها له .
والثاني : أن لا يذكره ، فإن لم يذكر اسم من جعلها له ، لم يكن ذلك جوابا .
[ ص: 322 ] وقيل له : قد توجه عليك جواب عدلت عنه ، فإن أقمت على هذا ، جعلت ناكلا وأحلف المدعي ، وحكم له بانتزاع الدار من يدك ، فإن عاد فادعاها لنفسه بعد إنكاره ، ففي قبول قوله وجهان حكاهما
ابن سريج :
أحدهما : لا يقبل قوله بعد إنكاره ؟ لأنه قد اعترف بها لغيره ويجعل كالناكل ، ويحلف مدعيها ، ويحكم بها له .
والوجه الثاني : يقبل قوله فيها ، لأنه لم يتعين فيها من جعلها له ، فصار إقراره كعدمه ، فيحلف عليها أنها له ، ويحكم له بالدار لأجل يده ، إلا أن يكون لمدعيها بينة ، فتسمع منه ، ويحكم بها له .
وإن سمى صاحب اليد من جعل الدار له ، وقال : هي لفلان ، لم يخل أن يكون حاضرا ، أو غائبا .
فإن كان حاضرا لم يخل حاله أن يقبل الإقرار أو ينكره ، فإن قبل الإقرار ، صارت اليد له ، وانتقلت الخصومة إليه وتوجهت عليه الدعوى ، فإن أنكر مدعيها ، حلف له وكان أحق بالدار بيمينه ويده ، إلا أن يقيم مدعيها بينة ، فيحكم بها له ببينته ؟ لأنها أولى من يد ويمين .
فإن أقام صاحب اليد البينة صار أحق بها ببينته ، ويده من بينة بغير يد .
فإن طلب مدعيها إحلاف صاحب اليد عليها ، بعد أن حكم بها للمقر له ، ففي إجابته إلى إحلاف صاحب اليد قولان مبنيان على اختلاف القولين فيمن أقر بدار في يده لزيد ، ثم أقر بها لعمرو ، وكان زيد أحق بها من عمرو بالإقرار الأول ، وهل يؤخذ المقر بغرم قيمتها لعمرو بالإقرار الثاني ؟ على قولين :
أحدهما : يؤخذ بغرم قيمتها لعمرو ، لأنه قد استهلكها عليه بإقراره لزيد ، فعلى هذا إيجاب المدعي إلى إحلاف صاحب اليد ، لأنه لو أقر له لزمه الغرم .
والقول الثاني : لا غرم عليه ، لبقاء الدار وتوجه المطالبة بها .
فعلى هذا لا يحلف صاحب اليد ولا يستحق عليه بالنكول غرم .
فصل : فإن لم يقبل من جعلت له الدار إقرار صاحب اليد وأنكرها ، لم يخل حال صاحب اليد من أن يكون مقيما على إقراره ، أو راجعا عنه .
فإن أقام على إقراره بها لمن أنكرها ، ولم يقبلها طولب مدعيها ببينته ، فإن أقامها ، حكم له بالدار ، وإن عدمها ففيه وجهان :
أحدهما : وهو قول
أبي العباس بن سريج : أن الحاكم ينصب لها أمينا يحفظها على مالكها ، حفظ اللقطة ، حتى تقوم البينة بها ، إما لمدعيها ، أو لغيره ، فيحكم بها له ،
[ ص: 323 ] ولا تدفع ، إلى المدعي بيمينه ، لأن يمينه هي يمين رد بعد النكول ، ولم يحكم بنكول من توجهت عليه اليمين ، فإن طلب المدعي إحلاف صاحب اليد ، ففي إجابته إلى إحلافه ما قدمناه من القولين .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي إسحاق المروزي أنه لا وجه لإيقافهما على من لا يدعيها ، والواجب أن يحلف المدعي عليها ، وتدفع إليه الدار بعد يمينه فإن حضر مدع لها بعد تسليمها إلى الأول بيمينه ، ونازعه فيها فهل يكون منازعا فيها لذي يد ، أو لغير ذي يد ؟ على وجهين :
أحدهما : يكون منازعا لذي يد لتقدم الحكم بها له ، فصارت يدا فيكون القول فيها إن أنكر قوله مع يمينه .
والوجه الثاني : يكون منازعا لغير ذي يد ، لأنها دفعت إليه بيمين من غير يد ، فيحلفان عليها ، وتكون بينهما كالمتداعيين لما ليس في أيديهما وإن رجع صاحب اليد عن إقراره حين رد عليه وادعاها لنفسه ، أو أقر بها لغيره ، ففي قبوله من ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يقبل منه ، سواء ادعاها لنفسه ، أو أقر بها لغيره ، لأن إقراره الأول قد أكذب الثاني ، فعلى هذا يكون الحكم كما لو أقام على إقراره الأول .
والوجه الثاني : يقبل منه سواء ادعاها لنفسه ، أو أقر بها لغيره ، لأنه لم يتعلق بإقراره حق لمعين ، فعلى هذا إن ادعاها لنفسه ، كان هو الخصم فيها وإن أقر بها لغيره ، انتقلت الخصومة إليه ، وكانت المنازعة مع ذي يد لأنه أقر له ذو يد .
والوجه الثالث : يقبل إقراره بها لغيره ، ولا يقبل منه دعواها لنفسه لأنه متهوم في ادعائها لنفسه ، وغير متهوم في الإقرار بها لغيره .