فصل : فأما الحالة الأولى : وهو
أن تكون في يد البائع : فقد اختلف أصحابنا في تصديق البائع ، لإحدى البينتين هل يوجب ترجيها على الأخرى على وجهين :
أحدهما : وهو قول
أبي إبراهيم المزني ،
وأبي العباس بن سريج ، أن تصديق البائع لإحداهما مقبول ، تترجح به بينته ، لأنه أصل ذو يد ، فعلى هذا يرجع إلى بيانه في أي العقدين تقدم ولا يرجع إلى بيانه أيهما باع ، لأنه قد ثبت عليه البيعان بالبينة ، فيرجع إليه بالتقدم منهما ، فإذا بين أحدهما التقدم كان البيع له ، ولا يمين على الآخر ، لأنه لو رجع عن قوله لم يقبل ، وليس يغرم للآخر القيمة ، وإنما يرد عليه الثمن ، فلذلك لم تلزمه اليمين ، وإن أنكر أن يكون عنده بيان ، أحلف وكان لكل واحد منهما أن يحلفه يمينا تخصه ، لأنه لو بين بعد إنكاره قبل منه ، فلذلك لزمته اليمين ، فإن جمع بين المشتريين في البيان ، لم يكن فيه بيان ، لأنه بيانه في التقدم ، ويستحيل أن يكون كل واحد منهما متقدما على الآخر في حاله .
وقال
أبو حامد الإسفراييني ، تكون الدار بينهما بتصديقه لهما .
فإن قال ذلك وهو يرى أن بيان البائع مقصور على المتقدم بالعقد فقد وهم لاستحالة اجتماعهما في التقدم ، وإن قاله ، لأنه يرى أنه يرجع إلى بيان البائع لأيهما باع فهو ارتكاب مذهب لا يقتضيه المذهب لما بيناه .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي علي بن خيران ، وعامة أصحابنا أن تصديق البائع لأجل يده ، غير مقبول ، في ترجيح بينة أحدهما ، لاتفاق البينتين على زوال ملكه ،
[ ص: 352 ] فبطل بهما حكم يده ، وإنما يرجع إلى يد يجوز أن تكون مالكة ، وليس للبائع يد ملك ، فعلى هذا يجري على البينتين حكم المتعارضتين في الظاهر ، وإن جاز أن لا يتعارضا في الباطن بأن يتقدم أحد العقدين على الآخر ، فيكون في تعارضهما ثلاثة أقاويل :
أحدهما : إسقاطها ، فيرجع إلى قول البائع لا ترجيحا للبينة لأنهما قد أسقطتا ، ولكن لأنها دعوى عليه في ابتياع منه ، فإن كذبهما حلف لكل واحد منهما ، وغرم له ما شهدت به بينته من الثمن الذي دفعه ، والدار باقية على حكم ملكه ، وإن صدق أحدهما ، وكذب الآخر ، كانت الدار مبيعة على المصدق ، دون المكذب ، فإن طلب المكذب إحلاف البائع ، نظر فإن كان قد سبق بالدعوى على المصدق كان له إحلاف البائع ، لأنه قد استحق اليمين بإنكاره قبل دعوى المصدق ، فلم يسقط حقه منها بتصديقه لغيره وإن كانت دعواه بعد تصديق الآخر ، فلا يمين عليه إلا على تخريج يذكره ، لأنها دعوى في حلال لا ينفذ فيها إقراره ويرجع عليه بالثمن الذي شهدت به بينته ، فلو عاد البائع ، فصدق الثاني بعد تصديق الأول ، كان البيع للأول ، لتقدم إقراره ، ونظر في قيمة الدار ، فإن كانت بقدر الثمن الذي شهدت به بينة الثاني ، لم يغرم للثاني إلا الثمن ، وإن كانت قيمتها أكثر من الثمن ففي وجوب غرم زيادة القيمة بعد رد الثمن قولان :
أحدهما : لا يغرمها .
والثاني : يغرمها .
ومن هاهنا يجيء تخريج قول
أبي علي للبائع أن يحلف للمكذب لأنه إذا غرم مع الإقرار حلف مع الإنكار ، ولو صدق البائع لهما جميعا ، جعلت الدار بينهما ، ويكون نصفها مبيعا على كل واحد منهما بنصف الثمن الذي شهدت به بينته ، إن اتفقوا على قدره ، وإن عدلوا إلى غيره ، فكل واحد من المشتريين يأخذ نصف الدار بنصف الثمن الذي أقر به البائع إن صدق المشتريان على قدره ، وإن كذباه ، حلفاه عليه ، وأبطل البيع ، ولا يعتبر الثمن الذي شهدت به البينة إلا في دفعه دون عقد البيع ، لأنه قد أسقط قبولهما في البيع ، فسقط حكم الثمن الذي شهدا به وإن قبلت شهادتهما في دفعه ، لأن تعارضهما في البيع لا في دفع الثمن فهو حكم القول الأول في إسقاط البينتين بالتعارض .
والقول الثاني :
الإقراع بين البينتين ، فأيتهما قرعت حكم بها وكان البيع لمن شهدت له ، وفي إحلافه مع القرعة قولان :
أحدهما : يحلف إن قيل : إن القرعة مرجحة لدعواه .
[ ص: 353 ] والثاني : لا يمين إن قيل إن القرعة مرجحة لبينته ، وللمقروع أن يرجع على البائع بالثمن الذي شهدت به بينته
والقول الثالث : استعمال البينتين ، وقسم الدار بهما بين المشتريين ليكون نصفها مبيعا من كل واحد منهما ، وهو لتفريق الصفقة عليه بالخيار في إمضاء البيع في نصف الدار بنصف الثمن أو فسخه ، لأنه ابتاع جميع الدار فجعل له نصفها ولهما في الخيار ثلاثة أحوال :
إحداها : أن يختار الإمضاء فيكونا شريكين .
والثانية : أن يختار الفسخ ، فيصح فسخ من تقدم منهما ، ويتوفر سهمه بالفسخ على المتأخر ، فيسقط خياره في الفسخ ، لأن البيع قد تكامل له في جميع الدار .
والحالة الثالثة : أن يمضي أحدهما ، ويفسخ الآخر ، فقد زال ملك الفاسخ ، ونظر فإن فسخ قبل رضا الآخر بالنصف يغرم سهمه على التراضي وأخذ جميع الدار بجميع ثمن بينته ، وإن فسخ بعد رضا الراضي لم يعد سهم الفاسخ على الراضي ، لاستقرار الحكم في ابتياعه النصف .