فصل : وإذا
تنازعا شاة مذبوحة وكان في يد أحدهما رأسها وجلدها وسقطها ، وفي يد الآخر مسلوخها ، وادعى كل واحد منهما أن جميعها له ، وأقام على ذلك بينة حكم لكل واحد منهما بملك ما في يده ، لأن له بما في يده بينة داخل ، وفيما بيد صاحبه بينة خارج ، فقضى ببينة الداخل على بينة الخارج .
وحكم
أبو حنيفة لكل واحد منهما ، بما في يد صاحبه ، لأنه يقضي ببينة الخارج على بينة الداخل ، ولو كان كل واحد منهما يدعي تلك الشاة ، وأنها نتجت في ملكه ، وأقام بها بينة ، وأمضى
أبو حنيفة على أنه يحكم لكل واحد منهما بملك ما في يده ، لأنه موافق على القضاء ببينة الداخل في النتاج ، ويخالف في غيره ، فيقضي ببينة الخارج في غير النتاج .
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو
شهدوا أن هذا الغزل من قطن فلان جعلته لفلان " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح إذا شهدوا أن هذا الغزل من قطن زيد ، كانت شهادة بملك زيد للغزل ، لأنه عين القطن وإن غيرته الصنعة ، بخلاف شهادتهم أن هذه الجارية بنت أمته لأنها غير أمته .
وهكذا لو شهدوا أن هذا الثوب من غزل زيد كانت شهادة له بملك الثوب ، لأنه القطن بعينه ، وإن تغير بالغزل والنساجة .
[ ص: 370 ] وجعلها
أبو حنيفة شهادة بالقطن ، دون الثوب ، والغزل ، وبنى ذلك على أصله أن
الغاصب إذا عمل في المغصوب بما يغير عن حاله ، كان أحق به من مالكه وغرم له بدل أصله ، وقد مضى الكلام معه في الغصب ، وأن مالكه أحق به من غاصبه .
فعلى هذا إن كانت قيمة الثوب منسوجا أكثر من قيمته غزلا ، وقطنا ، وهو الأغلب لم يرجع صاحب اليد بزيادته على المالك .
وإن كان أقل وهو نادر ، رجع المالك بنقصانه على صاحب اليد من أكثر قيمته قطنا ، أو غزلا ، وهكذا القول في نظائر هذا إذا شهدوا أن هذا الدقيق من حنطة زيد ، وهذه الدنانير من ذهبه ، وهذه الدراهم من فضته ، وهذه النخلة من نواته ، وهذا الزرع من بذره ، كانت له شهادة بملك ذلك ، سواء كان بعمل صاحب اليد ، أو بغير عمله ، وعند
أبي حنيفة : إن تغير بعمل صاحب اليد ملكه .
فعلى هذا يقول إن نبتت النواة نخلة بنفسها ، ونبت البذر في الأرض بنفسه ، كان لمالكه ، وإن كان بعمل صاحب اليد ، كان له ، ويقول في رجل غصب دجاجة ، فباضت بيضتين حضنت الدجاجة إحداهما حتى صارت فرخا وحضن الغاصب الأخرى ، إما تحت الدجاجة ، أو تحت غيرها حتى صارت فروجا كان الفرخ الأول لمالك الدجاجة ، والفروج الثاني للغاصب .
وجميع ذلك كله عندنا لمالك أصله على ما بيناه .
ولكن لو شهدوا أن هذا الزرع من ضيعته ، لم يكن ذلك شهادة له بملك الزرع ، لأنه قد يجوز أن يكون زرع أرضه لغيره ، وهذا مما اتفقنا نحن
وأبو حنيفة عليه .
فإن قيل : أفتكون هذه شهادة له باليد على الزرع ؟ نظر ، فإن لم يقولوا زرع فيها ، وهي على ملكه لم تكن شهادة له باليد ، لجواز زرعه فيها ، وحصاده قبل ملكه ويده وإن قالوا : زرع وحصد في ملكه ، كانت شهادة له بيد متقدمة ، فيكون عند
البويطي ،
وابن سريج ، على قولين كالشهادة بالملك القديم يوجب ثبوت يده في الحال ، وإحلافه على الزرع أنه ملكه .
والثاني : لا يوجب ثبوت يده ، ولا يحلف على ملكه .
والذي عليه أصحابنا أنه لا يحكم له باليد قولا واحدا لما بيناه ، ولا يحلف عليه ، ويكون القول فيه قول صاحب اليد في الحال مع يمينه ، فإن
أقام صاحب الأرض بأداء خراجه أو بدفع عشره إلى المستحق لقبض خراجه وعشره لم يملكه ، لأنه قد ينوب في أدائه عن مالكه .
[ ص: 371 ] مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : "
وإذا كان في يديه صبي صغير يقول : هو عبدي ، فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم " .
قال
الماوردي : وجملته أنه لا يخلو حال هذا الموجود ، إذا ادعاه الواجد عبدا من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون بالغا عاقلا ، فتعتبر حاله فإن أنكر الرق ، وقال أنا حر ، فالقول قوله مع يمينه ، ولا تقبل دعوى واجده في ادعائه ، لأن الأصل الحرية ، والرق طارئ ، فكان الظاهر معه فلو عاد بعد إنكاره للرق ، فأقر لواجده بالرق لم يقبل إقراره وكان على الحرية حتى يقيم مدعيه بينة برقه ، لأن
من أقر بالحرية لم يقبل إقراره بالرق ، وإن كان هذا أقر بالرق حين أخذه الواجد ، وأنكر أن يكون مملوكا لهذا الواجد المدعي لرقه ، فلا اعتبار بإنكاره ، لأن العبد لا يد له على نفسه ، ويقر في يد مدعيه ، لأنه ليس له منازع فيه ويجبر العبد على المقام معه ، فإن حضر من ادعاه ، ونازعه فيه كان للأول يد ، وليس للثاني يد ، فيكون القول فيه قول الأول مع يمينه لثبوت يده قبل منازعته إلا أن يقيم الثاني بينة ، فيحكم أنه عبد للثاني ، لأن البينة أولى من اليد ، فإن أقام الأول بينة كان أحق به من الثاني ، لأن للأول بينة داخل ، وللثاني بينة خارج .
ولو
تنازعه في الحال رجلان ، ولم يكن لأحدهما عليه يد ، وأقام كل واحد منهما بينة بأنه عبده ، فصدق العبد أحدهما لم تترجح بينته بتصديقه ، وتعارضت فيه البينتان ، فيكون على الأقاويل الثلاثة .
ولو
تنازعه رجلان ، ولا بينة لأحدهما فصدق أحدهما في رقه ، وكذب الآخر ، وأنه مملوك له دون الآخر ، كان عبدا للمصدق منهما دون المكذب .
وقال
أبو حنيفة : يكون عبدا لهما يشترك فيه المصدق ، والمكذب ، لأنه قد صار باعترافه بالرق لأحدهما مملوكا ، ولا اعتبار باعتراف المملوك وإنكاره .
وهذا ليس بصحيح ، لأنه حر في الظاهر ، وإنما صار مملوكا باعترافه فاقتضى أن يكون مملوكا لمن اعترف به .
ولو
كان معترفا بالرق قبل اعترافه لأحدهما ، ثم صدق أحدهما وكذب الآخر كان بينهما .