فصل : ثم عدل
الشافعي في مناظرته على قول
أبي حنيفة رحمه الله أنهم يشتركون في نسبه ، ولو كانوا مائة كما يشتركون في المال ، فأبطل
الشافعي رحمه الله هذا القول من أربعة أوجه :
أحدهما : أنه قال لو
مات أحد الشركاء في المال ، لم يملك الحي إلا ما كان يملك قبل موت صاحبه .
قال : لا .
فقال
الشافعي : " زعمت إن مات واحد منهم ورثه ميراث ابن تام ، وانقطعت أبوته " فأبطل
الشافعي بهذا قياسهم على المال ، لأن موت أحد الشركاء فيه لا يوجب انتقال حقه إليهم ، وعندهم أن موت أحد الأباء يوجب انتقال أبوته إليهم ، فبطل الجمع بينهما قياسا .
والوجه الثاني : إن قال زعمت أن لو مات رجل واحد ورثه ميراث أب تام وانقطعت أبوته ، فإن مات ورثه كل واحد منهم سهما من مائة سهم من ميراث أب ، فهل رأيت أبا قط إلى مدة ؟ فأبطل
الشافعي رحمه الله بهذا إلحاق نسبه بالجماعة ، لأنهم يقولون إنه إذا مات أحدهم انقطع نسبه منه ، فصار أبا في حياته وغير أب بعد موته ، فجعلوا نسبه مقدرا بمدة حياته ، ولم نر أبا قط إلى مدة .
والوجه الثالث : أن قال أرأيت إذا انقطعت أبوته عن الميت ، أيتزوج بناته ، وهن
[ ص: 400 ] اليوم أجنبيات ، وكن له بالأمس أخوات ؟ فأبطل
الشافعي عليهم بهذا ما قالوه من انقطاع أبوته بالموت ، فقال بنات الميت منهم ، ما حكمهم مع الولد أيحللن له أم لا ؟ فقد كن له بالأمس أخوات ، فإن قال : يحللن ، بطل أن يكن بالأمس أخوات محرمات ويصرن في اليوم أجنبيات محللات ، وإن قال يحرمن ، بطل أن لا يكون له ولهن أب جامع بين نسبه ونسبهن ، ويصرن أجنبيات محرمات .
والوجه الرابع : مما قالوه في التوارث بينهم ، أنه إن مات جعلوا ميراثه بين جميعهم ، وأعطوا كل واحد منهم ميراث بعض أب ، وإن مات أحدهم أعطوه جميع ميراث أب تام ، فجعلوا كل واحد منهم بعض أب ، ولم يجعلوا كل واحد منهم بعض ابن .
فقال
محمد رحمه الله
للشافعي : كيف يلزمنا أن نورثه ، فقال
الشافعي : يلزمك أن تورثهم في قولك : أن نورثه من كل واحد منهم سهما من مائة سهم من ميراث ابن ، كما نورث كل واحد منهم سهما من مائة سهم من ميراث أب ، فاعترض
المزني على
الشافعي رحمه الله في هذا الجواب فقال : ليس هذا بلازم لهم في قوله : لأن جميع كل أب أبو بعض الابن وليس بعض الابن ابنا لبعض الأب دون جميعه .
ثم استشهد عليه فقال : " كما لو ملكوا عبدا ، كان جميع كل سيد منهم مالكا لبعض العبد ، وليس بعض العبد ملكا لبعض السيد ، دون جميعه فشذ بعض أصحابنا فساعد
المزني على اعتراضه ، ومنع فيما ألزمهم
الشافعي على قولهم أن يكون لازما لهم ، تعليلا بما ذكره
المزني ، وذهب جمهور أصحابنا إلى صحة إلزام
الشافعي لهم ، وأبطل اعتراض
المزني على
الشافعي من وجهين :
أحدهما : أن
أبا حنيفة رحمه الله يقول ما يبطل اعتراض
المزني ، لأن عنده أن كل واحد من الأباء أب لكل الولد ، وكل الولد ابن لكل واحد من الأباء ، فبطل ما استشهد به
المزني من اشتراك السادة في العبد الواحد .
والثاني : أنه
إذا كان بعض الولد ابنا لكل واحد من الأباء ، وجب إذا مات أحد الأباء ، أن لا يرثه من بعض البنين ما يكون مستحقا بجميع البنوة ، فصح ما قال
الشافعي وفسد ما اعترض به
المزني رحمه الله وإذا بطل إلحاق الولد بآباء ثبت استعمال القافة ، لأن الناس فيه على قولين : فوجب فساد أحدهما صحة الآخر ، وقد استشهد من علم القافة في إلحاق الأنساب ، ما يزيل الارتياب به ، فقد حكي أن رجلا شك في ابن له ، فسار به إلى ديار
بني مدلج ومع الأب أخ له ، وهما على راحلتين ، والولد ماش ، فأعيا ، وأقبل صبي منهم فقال له الأب : اردف هذا الغلام بنا ، فنظر إليه وإليهما ثم قال : أردفه بأبيه ، أو بعمه ؟ فقال : بأبيه . فأردفه به ، فعاد من فوره وزال ما كان في
[ ص: 401 ] نفسه . وكالذي رواه
عبد الله بن وهب ، عن
أبي لهيعة ، عن
يزيد بن أبي حنيفة ، عن
محمد بن شهاب ، عن
أنس بن مالك ، قال : "
لما ولدت مارية القبطية إبراهيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفسه منه شيء ، بعث إليه جبريل ، فقال : السلام عليك يا أبا إبراهيم ، فسلم ، وذهب ما كان في نفسه . وكان
للشافعي فراسة ، فحكى
أبو ثور قال : كنت بحضرة
الشافعي رحمه الله ، إذا جاء رجل ، فجلس بين يديه ، فنظر إليه مليا وقال له : ألك أخ ؟ قال : نعم . ولكنه غائب في البحر منذ سنين ، فقال له لعله هذا الجائي فقام إليه ، فإذا هو أخوه قد قدم من ساعته ، وحكى
أبو ثور قال : كنت عند
الشافعي ، فجاءه رجل فقال : ما صناعة هذا ؟ فقال : لا أعرف . ولكن إما أن يكون خياطا ، أو نجارا ، فسألنا الرجل عن صناعته ، فقال : كنت خياطا فصرت نجارا .
وقال المصنف : كنت ذات يوم ، وأنا جالس بجامع
البصرة ، ورجل يتكلم فجمعني وأصحابي حضوره ، فلما سمعت كلامه ، قلت له : ولدت
بأذربيجان ، ونشأت
بالكوفة ، قال : نعم . فعجب مني من حضر ، والقيافة ، والفراسة ، غريزة في الطباع يعان فيها المجبول عليها ، ويعجز فيها المصروف عنها ، وبالله التوفيق .