[ ص: 102 ] فصل : فأما
بيع المدبر وهبته في حياة سيده ، فقد اختلف الفقهاء في جوازه على ثلاثة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب
الشافعي أن بيعه جائز في الأحوال كلها في دين ، وغير دين ، سواء كان تدبيره مطلقا أو مقيدا ، وهو في الصحابة قول
عائشة رضي الله عنها
وابن عمر وجابر ، وفي التابعين قول
عمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس ومجاهد ، وفي الفقهاء قول
أبي ثور ، وأحمد وإسحاق .
والثاني : وهو مذهب
مالك ، أنه كالعتق الناجز في المرض لا يجوز بيعه إلا في الدين مقيدا ، كان أو مطلقا .
والثالث : وهو مذهب
أبي حنيفة إن كان تدبيره مقيدا جاز بيعه في دين وغير دين ، وإن كان مطلقا لم يجز بيعه في دين وغير دين ، فجعله لازما إذا أطلق ، وغير لازم إذا قيد ، وهو عندنا غير لازم في الحالين ، احتجاجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
أنه نهى عن بيع المدبر .
قالوا : ولأن كل عتق نجز إطلاقه بموت المعتق ، منع من جواز البيع كأم الولد .
قالوا : ولأنه لما استفاد بالتدبير اسما غير اسم العبيد ، وجب أن يستفيد به حكما غير أحكام العبيد ؛ لأن انتقال الاسم يوجب انتقال الحكم ، ولو جاز بيعه لبقي على حكمه مع انتقال اسمه ، وهذا غير جائز كالمكاتب .
ودليلنا ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
أنه باع مدبرا على مالكه .
فإن قيل : هو محمول على بيع منافعه بالإجارة قيل : لا يجوز أن يعدل عن حقيقة المذكور إلى مجاز غير مذكور ، ما لم يصرف عنه دليل .
فإن قيل : إنما باعه في دين ، وقد يباع في الدين ما يمنع من بيعه في غير الدين كالمعتق في المرض ، قيل : لو كان بيعه لا يجوز إلا في الدين لكان بيعه موقوفا على طلب الغرماء ، ولما جاز أن يبيع منه إلا قدر الدين ، وقد باعه كله بثمن دفعه إليه ، وقال له : أنفق على نفسك ، ثم على عيالك ، ثم على ذوي رحمك ، ثم اصنع بالفضل ما شئت فدل على بيعه في الدين وغير الدين . وقد باعت
عائشة رضي الله عنها مدبرتها في غير دين ، فدل على جواز بيعه في الدين وغير الدين ، ولأن التدبير قول علق به عتق على صفة تفرد بها فلم يمنع من جواز بيعه كتعليقه بجميع الصفات ، ولأن
من جرى عليه حكم التدبير ، جاز بيعه قبل الموت كالتدبير المقيد ، ولأن من كان عتقه معتبرا من ثلثه مع صحته جاز له بيعه قبل عتقه كالموصى بعتقه .
فأما الجواب عما رواه عن نهيه عن بيع المدبر ، فهو أنه من المناكير التي لا تعرف ، ولو صح لكان محمولا على التنزيه بدليل ما فعله من بيعه .
[ ص: 103 ] وأما الجواب عن إلحاقه بأم الولد فهو أنها كالمستهلكة بالإحبال لسرايته إلى حصة الشريك ، ولأن عتق أم الولد لازم لاعتباره من رأس المال كالديون ، وعتق التدبير غير لازم لاعتباره من الثلث كالوصايا فلهذين ما افترقا في جواز البيع .
وأما الجواب عن أن انتقال الاسم يوجب انتقال الحكم ، فهو أنه موجب لزيادة حكم لم يكن قبل انتقال الاسم ، وقد وجدت الزيادة بعتقه بالموت ، ولم يلزم زوال أحكامه كما لم يلزم زوال استخدامه .
فإذا ثبت جواز بيعه ، جازت هبته وجاز كتابته ، وجاز تعجيل عتقه .
فأما الرجوع في تدبيره مع بقائه على ملكه ، حتى لا يعتق بموته فسنذكره من بعد في موضعه .