مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو
كان العبد مخبولا عتق بأداء الكتابة ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء " .
قال
الماوردي : الكتابة الفاسدة لا تبطل بجنون العبد وإن بطلت بجنون السيد ، فإذا جن أو حجر عليه لسفه كان حكم الكتابة باقيا يعتق بها بالأداء كالعتق بالصفة . والفرق فيها بين جنونه وجنون السيد من وجهين :
أحدهما : أن العبد لا يملك رفع الكتابة الفاسدة وإن ملكه السيد ، فلذلك لا تبطل بجنون العبد وإن بطلت بجنون السيد .
والثاني : إن وقوع الحجر على السيد يمنع من جواز كتابته ، فلذلك بطلت بوقوع الحجر عليه ، وليس كذلك حالة العبد ، لأن حجر الرق لا يؤثر في كتابته ، كذلك حدوث الحجر بجنون أو سفه ، لا يوجب بطلان كتابته ، وإذا لم تبطل بجنون العبد وسفهه فأداها السيد منه في حال جنونه عتق ، فأما التراجع بالقيمة بعد وقوع العتق فينقسم حال العبد المجنون في عتقه بالأداء ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكاتبه السيد كتابة صحيحة ، ثم يجن العبد فيؤدي مال كتابته في حال جنونه ، فهذا يعتق بالأداء عن كتابة صحيحة فلا تراجع بينهما ، لأن المؤدي هو المستحق بالعقد .
[ ص: 174 ] والقسم الثاني : أن يكاتب السيد عبده في حال جنونه ويتأداها منه في حال جنونه . فهذا لا يعتق بوجود الصفة ولا تراجع بينهما ، لأن المجنون ليس من أهل المعاوضات ولا ممن يصح منه ضمان مال ، فكانت الكتابة معه باطلة ، فتجرد فيها العتق بالصفة المحضة ، وسقط فيها حكم البدل .
وهذان القسمان لا اختلاف فيهما أن لا تراجع بين السيد وعبده بعد عتقه بأدائه .
والقسم الثالث : وهو مسطور المسألة - أن يكاتبه في حال الصحة كتابة فاسدة ، ثم يجن العبد ، فيتأداها السيد منه في حال جنونه ، ويعتق بها على ما ذكرناه .
فقد نقل
المزني هاهنا أنه لا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء ، ونقل
الربيع في كتاب الأم أن السيد يرجع على عبده بعد إفاقته بقيمته ، ويرجع العبد على سيده بما تأداه في حال جنونه ، ويكون القصاص على ما قدمناه ، فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين النقلين على ثلاثة طرق :
أحدها : أنه محمول على اختلاف قولين :
أحدهما : لا يتراجعان على ما نقله
المزني ، لأن ما استهلكه المجنون عن معاوضة فاسدة لم يضمنه كالمجنون ، إذا اشترى وتسلم ما اشترى فاستهلكه لم يضمنه ، ولو كان عاقلا ضمنه ، فكذلك في الكتابة الفاسدة .
والقول الثاني : يتراجعان القيمة على ما نقله
الربيع لوقوع العتق عن كتابة فاسدة ، وجنونه في الأداء كالصحة في وقوع العتق ، فوجب أن يكون بمثابته في الغرم ، فهذه طريقة المتقدمين من أصحابنا .
والطريقة الثانية : وهي طريقة
أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة أن اختلاف النقلين محمول على اختلاف حالين ، فنقل
المزني أنهما لا يتراجعان محمول عليه إذا كان العبد مجنونا في حال الكتابة على ما ذكرناه في القسم الثاني ، ونقل
الربيع في وجوب التراجع بينهما محمول على الكتابة الفاسدة إذا طرأ الجنون بعدها في حال الأداء .
والطريقة الثالثة : وهي طريقة
أبي العباس بن سريج أن نقل
الربيع وهو الصحيح في وجوب التراجع ، ونقل
المزني خطأ ، لأنه زاد فيه لا سهوا منه .
[ ص: 175 ] وهذا التوهم من
أبي العباس هو السهو ، لأن وضع الكلام مبني على تصحيحه بإثبات لأنه قال : ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء ، نفيا لعموم الرجوع ، ولو أراد إثبات الرجوع لقال : ويرجع السيد على مكاتبه بالقيمة فعلم فساد ما توهمه
أبو العباس ، وصحة ما نقله
المزني لصحة نظم الكلام عليه . والله أعلم .