فصل : ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا حل له ما يسد رمقه ، وهل له الشبع ؛ على روايتين . وإن وجد طعاما لا يعرف مالكه ، وميتة وصيدا ، وهو محرم ؛ فقال أصحابنا : يأكل الميتة ، ويحتمل أن يحل له الطعام ، والصيد ، إذا لم تقبل نفسه الميتة ، وإن لم يجد إلا طعاما لم يبذله مالكه ، فإن كان صاحب الطعام مضطرا إليه فهو أحق به ، وإلا لزمه بذله بقيمته ، فإن أبى للمضطر أخذه قهرا ، ويعطيه قيمته ، فإن منعه فله قتاله على ما يسد رمقه ، أو قدر شبعه على اختلاف الروايتين . فإن قتل صاحب الطعام لم يجب ضمانه ، وإن قتل المضطر فعليه ضمانه ، فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالحربي ، والزاني المحصن حل قتله وأكله ، وإن وجد معصوما ميتا ، ففي جواز أكله وجهان .
فصل .
( ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا ) سوى سم ونحوه ، بأن يخاف تلفا ، وقيل : أو ضررا ، وفي " المنتخب " : أو مرضا ، أو انقطاعا عن الرفقة ، ومراده ينقطع فيهلك كما ذكره في " الرعاية " ، أكل وجوبا ، نص عليه ، وذكره الشيخ تقي الدين ، وفاقا ، وقيل : ندبا ، وهو المراد بقوله ( حل له ما يسد [ ص: 206 ] رمقه ) اختاره الأكثر ، لقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ] البقرة : 173 [ ويحرم ما زاد على الشبع إجماعا ( وهل له الشبع على ؛ روايتين ) .
أظهرهما : أنه لا يباح ، وهو ظاهر " الوجيز " ، و " الفروع " ، لأن الآية دلت على تحريم الميتة ، واستثنى ما اضطر إليه ، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء .
والثانية : يباح ، اختارها أبو بكر ، لما روى nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة : nindex.php?page=hadith&LINKID=10340810أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة ، فقالت امرأته : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال : هل عندك غنى يغنيك ؛ قال : لا ، قال : فكلوها . رواه أبو داود . ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ، وقيل : هذا مقيد بدوام الخوف ، وينبني عليهما تزوده ، قاله في " الترغيب " ، وجوزه جماعة ، ونقل ابن منصور ، والفضل : يتزود إن خاف الحاجة ، واختاره أبو بكر ، قال : كما يتيمم ، ويترك الماء إذا خاف ، كذا هنا ، وهذا إن لم يكن في سفر محرم ، فإن كان فيه ، ولم يتب فلا ، ويجب تقديم السؤال قبل أكله ، نص عليه ، وقال لسائل : قم قائما ليكون لك عذر عند الله ، قال القاضي : يأثم إذا لم يسأل ، ونقل الأثرم : إن اضطر إلى المسألة فهي مباحة ، قيل : فإن توقف ، قال : ما أظن أحدا يموت من الجوع ، الله يأتيه برزقه ( وإن وجد طعاما لا يعرف مالكه ) أي : جهله ( وميتة وصيدا ، وهو محرم ، فقال أصحابنا : يأكل الميتة ) وقاله nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم ، لأن حق الله مبني على المسامحة والمساهلة ، بخلاف حق الآدمي ، فإنه مبني على الشح ، والضيق ، وحقه يلزمه غرامته ، بخلاف حق الله ، فإنه لا عوض فيه ، وفي " الفنون " قال حنبلي : الذي يقتضيه مذهبنا خلاف [ ص: 207 ] هذا ( ويحتمل أن يحل له الطعام ، والصيد ، إذا لم تقبل نفسه الميتة ) هذا وجه ، لأنه قادر على الطعام الحلال ، أشبه ما لو بذله مالكه ، وفي " الكافي " : هي أولى إن طابت نفسه ، وإلا أكل الطعام ، لأنه مضطر ، وفي مختصر ابن رزين ، ولو بقتاله ، ثم صيدا ، ثم ميتة ، فلو علمه ، وبذله ففي بقاء حله - كبذل حرة بضعها لمن لم يجد طولا - منع وتسليم ، فإن بذله بثمن مثله لزمه ، وقال ابن عقيل : لا يلزم معسرا على احتمال ، فإن وجد صيدا وطعاما أكل من الطعام ، وإن وجد لحم صيد ذبحه محرم ، وميتة أكل من الصيد ، قاله القاضي ، وقال أبو الخطاب : يأكل من الميتة ، فإن اشتبهت ميتة بمذكاة تحرى على الأشهر ، ولو وجد ميتتين إحداهما مختلف فيها أكل منها ( وإن لم يجد إلا طعاما لم يبذله مالكه ، فإن كان صاحب الطعام مضطرا إليه فهو أحق به ) ولا يجوز لغيره أخذه ، لأنه ساواه في الضرورة ، وانفرد بالملك ، أشبه غير حالة الاضطرار ، وهذا في غير النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان له أخذ الماء من العطشان ، ويلزم كل أحد أن يقيه بنفسه وماله ، وعلى الأول : إن أخذه منه أحد فمات لزمه ، لأنه قتله بغير حق ، فإن كان صاحب الطعام مضطرا إليه في ثاني الحال ، فهل يملكه ، أو يدفعه إلى المضطر إليه في الحال ؛ فيه وجهان ، أظهرهما : له إمساكه ، قاله في " الرعاية " ، واختاره المؤلف ، وظاهره أنه لا يجوز له إيثاره ، وفي الهدي له ذلك ، وأنه غاية الجود ، لقوله تعالى : ولو كان بهم خصاصة ] الحشر : 9 [ ولفعل جماعة من الصحابة ، وعد ذلك في مناقبهم ( وإلا ) أي : وإن لم يكن صاحب الطعام مضطرا إليه ( لزمه بذله ) لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله [ ص: 208 ] كما يلزمه بذل منافعه في تخليصه من الغرق ( بقيمته ) نص عليه ، وظاهره : ولو في ذمة معسر ، وفيه احتمال ، وفي زيادة لا تجحف وجهان ، وفي " الانتصار " ، و " عيون المسائل " : فرضا بعوضه ، وقيل : مجانا ، اختاره الشيخ تقي الدين كالمنفعة في الأشهر ( فإن أبى للمضطر أخذه ) بالأسهل ، فإن امتنع أخذه ( قهرا ) لأنه يستحقه دون مالكه ( ويعطيه قيمته ) أي : يعطي المالك قيمته ، لئلا يجتمع عليه فوات العين ، وفوات المالية ( فإن منعه فله قتاله ) جزم به في " الكافي " و " الوجيز " ، وصححه في " الرعاية " ، وفي " الترغيب " وجه ، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى : أنه لا يجوز قتاله ، كما ذكر في دفع الصائل ( على ما يسد رمقه ) وهو الأولى ، قاله في " الشرح " ( أو قدر شبعه ) لأنه منعه من الواجب عليه ، أشبه مانعي الزكاة ( على اختلاف الروايتين ) للتنبيه على أن المبيح للقتال منع ما يباح له ، لأنه الواجب ، لكن لو لم يبعه إلا بأكثر من ثمن المثل أخذه ، وأعطاه قيمته ، وقال القاضي : يقاتله ( فإن قتل صاحب الطعام لم يجب ضمانه ) لأنه ظالم بقتاله ، أشبه الصائل ( وإن قتل المضطر إلى طعامه فعليه ضمانه ) لأنه قتل ظلما ( فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالحربي والزاني المحصن حل قتله وأكله ) لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع ، فلو وجده ميتا فله أكله ( وإن وجد معصوما ميتا ففي جواز أكله وجهان ) .
والثاني : بلى ، اختاره أبو الخطاب ، وابن عقيل ، وجزم به في " الوجيز " ، لأن الأكل من اللحم لا من العظم .
[ ص: 209 ] والمراد بالخبر التشبيه في أصل الحرمة لا بمقدارها ، بدليل اختلافهما في الضمان والقود ، قال المؤلف : وهو أولى ، وظاهره : أنه إذا كان حيا أنه لا يحل قتله ، ولا إتلاف عضو منه ، مسلما كان أو كافرا ، وهذا لا اختلاف فيه ، لأن المعصوم الحي مثل المضطر ، فلا يجوز له أن يبقي نفسه بإتلافه .
مسألة : سئل أحمد عن الجبن ؛ فقال : يؤكل من كل أحد ، فقيل له عن الجبن الذي تصنعه المجوس ، فقال : ما أدري ، وذكر أن أصح حديث فيه حديث عمر ، أنه سئل عن الجبن ، وقيل : له تعمل فيه الإنفحة الميتة ، قال : سموا اسم الله وكلوا ، ولا يجوز أن يشتري جوزا ، أو بيضا قومر به .