ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه في المسافة القريبة ، ومسافة القصر ، ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة . ويجوز أن يكتب إلى قاض معين ، وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم ، ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرأه عليهما ثم يقول : أشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ويدفعه إليهما . فإذا وصلا إلى المكتوب إليه ، دفعا إليه الكتاب ، وقالا : نشهد أن هذا كتاب فلان إليك ، كتبه من عمله وأشهدنا عليه . والاحتياط أن يشهدا عليه بما فيه ، ويختمه ولا يشترط ختمه .
( ويجوز كتابه فيما حكم به ) مثل أن يحكم على إنسان بحق ، فيتعين عليه وفاؤه . أو يدعي حقا على غائب ، ويقيم بينة عنده ، ويسأل الحاكم الحكم عليه ، فيحكم عليه ، ويسأله أن يكتب له كتابا بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب ، فيكتب له إليه . أو تقوم البينة على حاضر ، فيهرب قبل الحكم عليه ، فيسأل صاحب الحق الحاكم الحكم عليه ، وأن يكتب له كتابا بحكمه ، فيلزم الحاكم إجابته ; لأن الحاجة داعية إلى ذلك . ( لينفذه [ ص: 105 ] في المسافة القريبة ، ومسافة القصر ) لا نعلم فيه خلافا ; لأن المكتوب إليه يلزمه قبوله .
وظاهره : ولو كانا ببلد واحد وحكم الحاكم ، يجب إمضاؤه على كل حاكم . واختار الشيخ تقي الدين وفي حق الله - تعالى - . ( ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة ) هذا هو المذهب ; لأنه نقل شهادة ، فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ، وكتابه بالحكم ليس هو نقلا ، وإنما هو خبر .
وعنه : فوق يوم . قال الشيخ تقي الدين : خرجته في المذهب ، وأقل كخبر . وقاله أبو يوسف ومحمد . وروي عن أبي حنيفة ، لكن قال بعض أصحابه : الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز ، كما لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة .
قال القاضي : ويكون في كتابه : شهد عندي فلان وفلان بكذا . ليكون المكتوب إليه هو الذي يقضي ، ولا يكتب : ثبت عندي . لأنه حكم بشهادتهما كبقية الأحكام . قاله ابن عقيل وغيره .
قال الشيخ تقي الدين : والأول أشهر ; لأنه خبر بالثبوت كشهود الفرع ، لأن الحكم أمرا ونهيا يتضمن إلزاما .
فرع : لو أثبت مالكي وقفا لا يراه ، كوقف الإنسان على نفسه بالشهادة على الخط ، فإن حكم للخلاف في العمل بالخط كما هو المعتاد ، فلحنبلي يرى صحة الحكم [ ص: 106 ] أن ينفذه مسافة قريبة . وإن لم يحكم المالكي ، بل قال : ثبت كذا . فكذلك ; لأن الثبوت عند المالكي حكم . ثم إن رأى الحنبلي الثبوت حكما نفذه ، وإلا فالخلاف في قرب المسافة ولزوم الحنبلي تنفيذه ، ينبني على لزوم تنفيذ الحكم المختلف فيه ، وحكم المالكي مع علمه باختلاف العلماء في الخط لا يمنع كونه مختلفا فيه . ولهذا لا ينفذه الحنفي حتى ينفذه آخر . وللحنبلي الحكم بصحة الوقف مع بعد المسافة ومع قربها ، الخلاف ذكره في " الفروع " . ( ويجوز أن يكتب إلى قاض معين ) ككتابه عليه السلام إلى nindex.php?page=showalam&ids=16848كسرى وقيصر . ( وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم ) وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=11956أبي ثور ، واستحسنه أبو يوسف كما لو كان معينا . ( ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان ) عدلان عند المكتوب إليه ، ويعتبر ضبطهما لمعناه وما يتعلق به الحكم فقط ، نص عليه . وقيل : عند الكاتب .
ويتوجه لنا : أنه إذا كان يعرف خطه وختمه اكتفى به ، وهو قول الحسن وسوار والعنبري ; لأنه يحصل غلبة الظن أشبه شهادة الشاهدين .
وجوابه : أن ما أمكن إتيانه بالشهادة لم يجز الاقتصار على الظاهر ، كإثبات العقود ، ولأن الخط يشبه الخط ، والختم يمكن التزوير عليه ، ولأنه نقل حكم أو إثبات ، فلم يكن فيه بد من شهادة عدلين ، كالشهادة على الشهادة . ( يحضرهما القاضي الكاتب ) لأن تحمل الشهادة بغير معرفة المشهود به غير جائز . ( فيقرأه [ ص: 107 ] عليهما ) وهذا ليس بواجب في القبول ، بل قراءته هي الواجبة ، سواء كانت من حاكم أو غيره . والأولى أن يقرأه الحاكم ; لأنه أبلغ . والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه ، فإن لم ينظرا جاز ; لأنه لا يستقر إلا ثقة . ( ثم يقول : أشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ) لأنه يحملهما الشهادة ، فوجب أن يعتبر فيه إشهاده ، كالشهادة على الشهادة . وإن قال : اشهدا علي بما فيه . كان أولى . فإن اقتصر على قوله : هذا كتابي إلى فلان . فظاهر الخرقي : أنه لا يجزئ حتى يقول : اشهدا علي . كالشهادة على الشهادة .
وقال القاضي : يجزئ . ثم إن قل ما في الكتاب اعتمدا على حفظه ، وإلا كتب كل منهما نسخة به . ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا ; لئلا يدفع إليهما غيره . ( فإذا وصلا إلى المكتوب إليه ، دفعا إليه الكتاب ) ثم يقرؤه عليهما ، ثم شهدا به . ( وقالا : نشهد أن هذا كتاب فلان إليك ، كتبه من عمله وأشهدنا عليه ) لأن الكتاب لا يقبل إلا من قاض ، وذلك يستدعي وجود الكتابة والإشهاد عليه في موضع قضائه . وفي كلام أبي الخطاب : كتبه بحضرتنا ، وقال لنا : اشهدا علي ، كتبته في عملي ، فثبت عندي حكمت به من كذا وكذا . فيشهدان بذلك ; لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل في مجلس عمله . ( والاحتياط أن يشهدا عليه بما فيه ، ويختمه ) لأنه أبلغ . ( ولا يشترط ختمه ) لأنه - عليه السلام - كتب إلى قيصر ولم يختمه ، فقيل له : إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم . فاتخذ الخاتم .