صفحة جزء
فصل .

ولا تعتبر في الشهادة الحرية ، بل تجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين ، وتقبل شهادة الأمة فيما يجوز فيه شهادة النساء ، وتجوز شهادة الأصم على ما يراه ، وعلى المسموعات التي كانت قبل صممه ، وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت وبالاستفاضة ، وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى ، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به ، فإن لم يعرفه إلا بعينه ، فقال القاضي : تقبل شهادته أيضا ، ويصفه للحاكم بما يتميز به ، ويحتمل أن لا تجوز ؛ لأن هذا مما لا ينضبط غالبا ، وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قبلت شهادته وجها واحدا ، وشهادة ولد الزنى جائزة في الزنى وغيره ، وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه ، كالمرضعة على الرضاع ، والقاسم على القسمة ، والحاكم على حكمه بعد العزل ، وتقبل شهادة البدوي على القروي ، والقروي على البدوي ، وعنه في شهادة البدوي على القروي أخشى : أن لا تقبل ، فيحتمل وجهين .


فصل .

( ولا تعتبر في الشهادة الحرية ) نص عليه ، اختاره ابن حامد وأبو الخطاب وابن عقيل ، وقدمه في " المحرر " و " الرعاية " .

قال أحمد : كان أنس يجيز شهادة العبد ، ليس شيء يدفعه ، ولأنه ـ تعالى ـ أمر بإشهاد ذوي عدل منا ، ومن فقد الحرية فهو عدل ، بدليل قبول روايته وفتياه ، ولأن العبد عدل غير متهم ، فقبلت شهادته كالحر ( بل تجوز شهادة العبد في كل شيء ) ذكر ابن هبيرة : أنه المشهور ، وهو ظاهر المذهب ، وقاله جماعة منهم : أبو ثور ، ورواه الخلال بإسناده عن أنس ، وهو إسناد جيد ، ورواه ـ أيضا ـ من رواية الحسن عن علي لعموم الآيات ، ولحديث عقبة بن الحارث في الرضاع ، ولقوله : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله .

وقد كان كثير من سلف هذه الأمة وعلمائها وصلحائها موالي ، ولم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية ، وهي لا تحدث علما ولا دينا ( إلا في الحدود والقصاص في إحدى الروايتين ) فإنها لا تقبل فيهما ؛ لما في شهادته من الخلاف ، إذ أكثر الفقهاء ـ ونقله أبو طالب ـ أنه يشترط لها الحرية ، وذلك شبهة ، والحدود [ ص: 237 ] والقصاص تدرأ بالشبهة .

والثانية : تقبل ، اختارها القاضي يعقوب ، وإليه ميل ابن عقيل في " التذكرة " ، فإنه قال : ليس عن أحمد منع في الحدود ، وذلك لما تقدم من العموم .

وظاهر رواية الميموني : أنها تعتبر في حد لا قصاص ؛ لأنه حق لآدمي مبني على الشح والضيق ، بخلاف الأول فإنها مبنية على المساهلة والمسامحة ، وهو اختيار الخرقي وأبي الفرج وصاحب " الروضة " .

وفي " الكافي " : أنها لا تقبل في الحد ، وفي القود احتمالان .

فرع : متى تعينت حرم منعه ، ونقل المروذي : من أجاز بشهادته لم يجز لسيده منعه من قيامها ، فلو عتق بمجلس الحكم فشهد حرم رده .

قال في " المفردات " :

فلو رده مع ثبوت عدالته فسق ، والمكاتب والمدير وأم الولد والمعتق بعضه كالقن ( وتقبل شهادة الأمة فيما يجوز فيه شهادة النساء ) الأحرار ؛ لدخولها في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان [ البقرة : 282 ] مع حديث عقبة المتقدم ذكره ( وتجوز شهادة الأصم على ما يراه ) لأنه فيما رآه كغيره ( وعلى المسموعات التي كانت قبل صممه ) لأنه في ذلك كمن ليس به صمم ( وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت ) أي : المشهود عليه .

[ ص: 238 ] والمراد بالجواز القبول ، فإذا حصل ذلك للأعمى وجب قبول شهادته كالبصير ، ولأنه يروى عن علي وابن عباس أنهما أجازا شهادة الأعمى ، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة لحصول العلم له بذلك ، كاستمتاعه بزوجته ، وهذا بخلاف ما طريقه الرؤية ؛ لأنه لا رؤية له ( وبالاستفاضة ) لأنه يعتمد القول ، وشهادته جائزة ، وقاله الشافعي وزاد : والترجمة ، وإذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ، ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ، ولم يجزها في غير ذلك ؛ لأن من لا تجوز شهادته على الأفعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ، ولأن الأصوات تشتبه ( وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى ، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به ) لأن العمى فقد حاسة لا يخل بالتكليف ، فلا يمنع قبول الشهادة كالصمم ، وروى الخلال في جامعه عن إسماعيل بن سعيد ، سألت أحمد عن شهادة الأعمى فيما قد عرفه قبل أن يعمى ، فقال : جائز في كل ما ظنه نحو النسب ، ولا تجوز في الحدود .

وقال أبو حنيفة : لا تقبل مطلقا ، وذكر أحمد أن أصحابه جوزوا ذلك ، ذكره الخلال ( فإن لم يعرفه إلا بعينه ، فقال القاضي ) وجزم به في " الوجيز " ، وهو المنصوص ( تقبل شهادته أيضا ، ويصفه للحاكم بما يتميز به ) لعموم الأدلة ، وقال الشيخ تقي الدين : وكذا إن تعذر رؤية العين المشهود لها أو عليها أو بها ، لموت أو غيبة ( ويحتمل ) هذا وجه ( أن لا تجوز ؛ لأن هذا مما لا ينضبط غالبا ) وعلله المؤلف هنا ، وفي " المحرر " و " الفروع " الوجهان من غير ترجيح . وهما أيضا [ ص: 239 ] فيما إذا عرفه بصوته ( وإن شهد عند الحاكم ثم عمي ) أو خرس أو جن أو مات ( قبلت شهادته ) وهو قول أكثر العلماء ، والمراد به الحكم بها ؛ لأن المانع طرأ بعد أداء الشهادة فلا يورث تهمة في حال الشهادة ، فلم يمنع الحكم بها كما لو شهد ثم مات .

وقال أبو حنيفة : لا يقبل كما لو طرأ الفسق .

وفرق في " الشرح " : بأن الفسق يورث تهمة في حال الشهادة ، بخلاف غيره ، لكن لو حدث بعد الشهادة ما لا يجوز معه شهادة ، لم يحكم بها ؛ لأن العادة أن الإنسان يستبطن الفسق ويظهر العداوة ، فلا يأمن أن يكون فاسقا حين أداء الشهادة ، فلم يجز الحكم بها مع الشك ، إلا عداوة ابتداها المشهود عليه ، بأن قذف البينة ؛ لأنها لا تمنع ، لأنها لو أبطلناها بهذا لتمكن كل مشهود عليه بإبطال شهادة الشاهد بقذفه ، وكذا المنازعة والمقاولة وقت غضبه ومحاكمته بدون عداوة ظاهرة سابقة .

قال في " الترغيب " : ما لم يصل إلى حد العداوة أو الفسق .

فإن حدث بعض ما يمنع الحكم بها بعد الحكم وقبل الاستيفاء ، فإن كان ذلك حدا لله لم يستوف ؛ لأن هذا شبهة وهو يدرأ بها ، وإن كان مالا استوفي ؛ لأن الحكم قد تم ، وإن كان قودا أو حد قذف فوجهان ( وشهادة ولد الزنى جائزة في الزنى وغيره ) في قول أكثر العلماء ؛ لعموم الأدلة ، وأنه عدل مقبول الرواية [ ص: 240 ] والشهادة في غير الزنى ، فتقبل فيه كغيره ، ولد الزنى لم يفعل فعلا قبيحا يجب أن يكون له نظير ، لأن الزاني لو تاب لقبلت شهادته ، وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته مع ما ذكر ، فغيره أولى .

قال ابن المنذر : وما روي عن عثمان أنه قال : ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين ، لا أعلمه ثابتا عنه ، وكيف يجوز أن يثبت عثمان كلاما بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره ( وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه ، كالمرضعة على الرضاع ، والقاسم على القسمة ، والحاكم على حكمه بعد العزل ) ذكره الأصحاب لحديث عقبة في الرضاع والباقي بالقياس عليه .

وفي " المستوعب " : تقبل شهادة القاسم على القسمة بعد فراغه ، إذا كان بغير عوض ، وسبقه إليه القاضي وأصحابه ، وجزم به " المغني " ( وتقبل شهادة البدوي على القروي ، والقروي على البدوي ) جزم به في " الوجيز " ، وصححه جماعة ( وعنه : في شهادة البدوي على القروي أخشى أن لا تقبل ، فيحتمل وجهين ) .

أحدهما : لا تقبل ، وقاله جمع من أصحابنا ، وجزم به ابن هبيرة عن أحمد .

لما روى أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ولما فيه من الجفاء في الدين .

[ ص: 241 ] والثاني : تقبل ، صححه في " المستوعب " ، وابن المنجا ؛ لأن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت على أهل القرى ، دليله شهادة القروي على البدوي ، والحديث محمول على أن شهادة البدوي لا تقبل للجهل بعدالته الباطنة ، وخصه بهذا ؛ لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية