[ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم
[ مقدمة المؤلف ]
أما بعد حمد الله بجميع محامده ، والصلاة والسلام على
محمد رسوله وآله وأصحابه ، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها ، والتنبيه على نكت الخلاف فيها ، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع ، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع ، أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا ، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها ، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى أن فشا التقليد .
وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية ، وكم أصناف الأحكام الشرعية ، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف ; بأوجز ما يمكننا في ذلك .
فنقول : إن
الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي - عليه الصلاة والسلام - بالجنس ثلاثة : إما لفظ ، وإما فعل ، وإما إقرار . وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور : إن طريق الوقوف عليه هو القياس . وقال أهل الظاهر : القياس في الشرع باطل ، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له . ودليل العقل يشهد بثبوته ، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية ، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية ، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى .
وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة : ثلاثة متفق عليها ، ورابع مختلف فيه . أما الثلاثة المتفق عليها : فلفظ عام يحمل على عمومه ، أو خاص يحمل على خصوصه ، أو لفظ عام يراد به الخصوص ، أو لفظ خاص يراد به العموم ، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى ، وبالأدنى على الأعلى ، وبالمساوي على المساوي ; فمثال الأول قوله تعالى (
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك ، مثل خنزير الماء . ومثال العام يراد به الخاص : قوله تعالى (
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال .
ومثال الخاص يراد به العام : قوله تعالى (
فلا تقل لهما أف ) وهو من باب التنبيه بالأدنى على
[ ص: 8 ] الأعلى ، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك ، وهذه إما أن يأتي المستدعي بها فعله بصيغة الأمر ، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر ، وكذلك المستدعي تركه ، إما أن يأتي بصيغة النهي ، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به النهي ، وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب - على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه - أو يتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما ؟ فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه ، وكذلك الحال في صيغ النهي ، هل تدل على الكراهية أو التحريم ، أو لا تدل على واحد منهما ؟ فيه الخلاف المذكور أيضا .
والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط ( وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص ، ولا خلاف في وجوب العمل به ) وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد ، وهذا قسمان : إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء ، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل ، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما ، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض ، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر : ظاهرا ، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل : محتملا . وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل ، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع ، لكن ذلك من قبل ثلاثة معان : 1 - من قبل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم . 2 - ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين ، هل أريد بها الكل أو البعض ؟ . 3 - ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي .
وأما الطريق الرابع فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم عما عدا ذلك الشيء ، أو من نفي الحكم عن شيء ما إيجابه لما عدا ذلك الشيء الذي نفي عنه ، وهو الذي يعرف بدليل الخطاب ، وهو أصل مختلف فيه ، مثل قوله - عليه الصلاة والسلام - "
في سائمة الغنم الزكاة " فإن قوما فهموا منه أن لا زكاة في غير السائمة .
وأما
القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما ، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين : قياس شبه ، وقياس علة .
والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام : أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص ، فيلحق به غيره ، ( أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ ) لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس ، وإنما هو من باب دلالة اللفظ ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا ، لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به ، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا ،
[ ص: 9 ] فمثال القياس : إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد ، والصداق بالنصاب في القطع .
وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام ، فتأمل هذا فإن فيه غموضا .
والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه ، وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه ; لأنه من باب السمع ، والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب ، وأما الفعل : فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية ، وقال قوم : الأفعال ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ ، والذين قالوا : إنها تتلقى منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه ، فقال قوم : تدل على الوجوب ، وقال قوم : تدل على الندب ، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب ، وإن أتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب ; وإن لم تأت بيانا لمجمل ، فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب وإن كانت من جنس المباحات دلت على الإباحة ، وأما الإقرار : فإنه يدل على الجواز ، فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط .
وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة ، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق ، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة .
وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين ، فهي بالجملة : إما أمر بشيء ، وإما نهي عنه ، وإما تخيير فيه .
والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا ، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا ، والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا ، وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها .
فتكون
أصناف الأحكام الشرعية المتلقاة من هذه الطرق خمسة : واجب ، ومندوب ، ومحظور ، ومكروه ، ومخير فيه وهو المباح .
وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة : أحدها : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع : ( أعني : بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص ، أو خاصا يراد به العام ، أو عاما يراد به العام ، أو خاصا يراد به الخاص ) ، أو يكون له دليل خطاب ، أو لا يكون له .
والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض ، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب ، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية ، وأما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى (
إلا الذين تابوا ) فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط ، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد ، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف .
والثالث : اختلاف الإعراب .
[ ص: 10 ] والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز ، التي هي : إما الحذف ، وإما الزيادة ، وإما التقديم ، وإما التأخير ، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة .
والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة ، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة ، وتقييدها بالإيمان تارة .
والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات ، أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة : ( أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الإقرار للقياس ) .
قال القاضي - رضي الله عنه - : وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء ، فلنشرع فيما قصدنا له ، مستعينين بالله ، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم .