صفحة جزء
الفصل الثاني .

[ في معرفة مواضع سجود السهو ]

اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال :

1 - فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا قبل السلام .

2 - وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبدا بعد السلام .

3 - وفرقت المالكية فقالت : إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام ، وإن كان لزيادة كان بعد السلام .

4 - وقال أحمد بن حنبل : يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل السلام ، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد السلام ، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام .

[ ص: 163 ] 5 - وقال أهل الظاهر : لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط ، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به ، وإن كان ندبا فليس عليه شيء .

والسبب في اختلافهم : أنه - عليه الصلاة والسلام - ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام ، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة أنه قال : " صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ثم قام فلم يجلس ، فقام الناس معه ، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس " . وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين .

فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو - أعني : الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها - عليه الصلاة والسلام - إلى أشباهها - في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب : أحدها : مذهب الترجيح . والثاني : مذهب الجمع . والثالث : الجمع بين الجمع والترجيح .

فمن رجح حديث ابن بحينة قال : السجود قبل السلام ، واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، أثلاثا أم أربعا، فليصل ركعة ، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين ، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان " قالوا : ففيه السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة الوقوع خامسة ، واحتجوا لذلك أيضا بما روي عن ابن شهاب أنه قال : " كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجود قبل السلام " .

وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال : السجود بعد السلام ، واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة : " أنه - عليه الصلاة والسلام - قام من اثنتين ولم يجلس ، ثم سجد بعد السلام " . قال أبو عمر : ليس مثله في النقل فيعارض به . واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن مسعود الثابت : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام " .

وأما من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا : إن هذه الأحاديث لا تتناقض ، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة ، والسجود قبل السلام في النقصان ، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع ، قالوا : وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض .

وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح فقال : يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النحو الذي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع ، وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالحكم فيها : السجود قبل السلام . فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها - عليه الصلاة والسلام - قبل السلام ، ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام ، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها ، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه ، وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها ، ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض ، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح - أعني : أنه قاس على السجود الذي قبل السلام ، ولم يقس على الذي بعده - . وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكما خارجا عنها ، وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر [ ص: 164 ] فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط .

وأما أحمد بن حنبل ، فجاء نظره مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس ، وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده ، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام .

ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس - أعني : لأصحاب القياس - . وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس ، كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل ، وذلك إما من حيث هي مشهورة وأصل لغيرها ، وإما من حيث هي كثيرة الوقوع .

والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحدها : أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة .

والثاني : أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين .

والثالث : أنه صلى خمسا على ما في حديث ابن عمر ، خرجه مسلم والبخاري .

والرابع : أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين .

والخامس : السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري ، وسيأتي بعد .

واختلفوا لماذا يجب سجود السهو ؟ فقيل يجب للزيادة والنقصان ، وهو الأشهر . وقيل : للسهو نفسه ، وبه قال أهل الظاهر والشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية