الموضع الثالث
في التشطير
واتفقوا اتفاقا مجملا أنه
إذا طلق قبل الدخول وقد فرض صداقا أنه يرجع عليها بنصف الصداق لقوله تعالى : (
فنصف ما فرضتم ) الآية .
والنظر في التشطير في أصول ثلاثة : في محله من الأنكحة ، وفي موجبه من أنواع الطلاق ( أعني : الواقع قبل الدخول ) ، وفي حكم ما يعرض له من التغييرات قبل الطلاق .
أما محله من النكاح عند
مالك : فهو النكاح الصحيح ( أعني : أن يكون يقع الطلاق الذي قبل الدخول في النكاح الصحيح ) . وأما النكاح الفاسد ، فإن لم تكن الفرقة فيه فسخا وطلق قبل الفسخ ففي ذلك قولان .
وأما موجب التشطير : فهو الطلاق الذي يكون باختيار من الزوج لا باختيار منها ، مثل الطلاق الذي يكون من قبل قيامها بعيب يوجد فيه .
واختلفوا من هذا الباب في الذي يكون سببه قيامها عليه بالصداق أو النفقة مع عسره ، ولا فرق بينه وبين القيام بالعيب .
وأما الفسوخ التي ليست طلاقا : فلا خلاف أنها ليست توجب التشطير إذا كان فيها الفسخ من قبل العقد أو من قبل الصداق ، وبالجملة من قبل عدم موجبات الصحة ، وليس لها في ذلك اختيار أصلا .
وأما الفسوخ الطارئة على العقد الصحيح مثل الردة والرضاع : فإن لم يكن لأحدهما فيه اختيار ; أو كان لها دونه لم يوجب التشطير . وإن كان له فيه اختيار مثل الردة أوجب التشطير . والذي يقتضيه مذهب أهل الظاهر أن كل طلاق قبل البناء فواجب أن يكون فيه التنصيف ، سواء كان من سببها أو سببه ، وأن ما كان فسخا ولم يكن طلاقا فلا تنصيف فيه .
وسبب الخلاف : هل هذه السنة معقولة المعنى أم ليست بمعقولة .
فمن قال إنها معقولة المعنى ; وأنه إنما وجب لها نصف الصداق عوض ما كان لها لمكان الجبر على رد سلعتها ; وأخذ الثمن ; كالحال في المشترى ; فلما فارق النكاح في هذا المعنى البيع جعل لها هذا عوضا
[ ص: 412 ] من ذلك الحق قال : إذا كان الطلاق من سببها لم يكن لها شيء ، لأنها أسقطت ما كان لها من جبره على دفع الثمن وقبض السلعة .
ومن قال : إنها سنة غير معقولة واتبع ظاهر اللفظ قال : يلزم التشطير في كل طلاق كان من سببه أو سببها .
فأما حكم ما يعرض للصداق من التغيرات قبل الطلاق : فإن ذلك لا يخلو أن يكون من قبلها أو من الله :
فما كان من قبل الله فلا يخلو من أربعة أوجه : إما أن يكون تلفا للكل ، وإما أن يكون نقصا ، وإما أن يكون زيادة ، وأما أن يكون زيادة ونقصا معا .
وما كان من قبلها : فلا يخلو أن يكون تصرفها فيه بتفويت مثل البيع والعتق والهبة ، أو يكون تصرفها فيه في منافعها الخاصة بها أو فيما تتجهز به إلى زوجها . فعند
مالك أنهما في التلف وفي الزيادة وفي النقصان شريكان . وعند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنه يرجع في النقصان والتلف عليها بالنصف ولا يرجع بنصف الزيادة .
وسبب اختلافهم :
هل تملك المرأة الصداق قبل الدخول أو الموت ملكا مستقرا أو لا تملكه ؟
فمن قال : إنها لا تملكه ملكا مستقرا قال : هما فيه شريكان ما لم تتعد فتدخله في منافعها .
ومن قال تملكه ملكا مستقرا والتشطير حق واجب تعين عليها عند الطلاق وبعد استقرار الملك ; أوجب الرجوع عليها بجميع ما ذهب عندها ; ولم يختلفوا أنها إذا صرفته في منافعها ضامنة للنصف .
واختلفوا إذا اشترت به ما يصلحها للجهاز مما جرت به العادة هل يرجع عليها بنصف ما اشترته أم بنصف الصداق الذي هو الثمن ؟ فقال
مالك : يرجع عليها بنصف ما اشترته . وقال
أبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : يرجع عليها بنصف الثمن الذي هو الصداق .
واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور متعلق بالسماع وهو : هل للأب أن يعفو عن نصف الصداق في ابنته البكر ؟ ( أعني : إذا طلقت قبل الدخول ) وللسيد في أمته ؟ فقال
مالك : ذلك له . وقال
أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : ليس ذلك له .
وسبب اختلافهم : هو الاحتمال الذي في قوله تعالى : (
إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) وذلك في لفظة " يعفو " فإنها تقال في كلام العرب مرة بمعنى يسقط ، ومرة بمعنى يهب . وفي قوله : (
الذي بيده عقدة النكاح ) على من يعود هذا الضمير ؟ هل على الولي أو على الزوج ؟ فمن قال : على الزوج جعل " يعفو " بمعنى يهب . ومن قال : على الولي جعل " يعفو " بمعنى يسقط . وشذ قوم فقالوا : لكل ولي أن يعفو عن نصف الصداق الواجب للمرأة .
ويشبه أن يكون هذان الاحتمالان اللذان في الآية على السواء ، لكن من جعله الزوج فلم يوجب حكما زائدا في الآية ( أي : شرعا زائدا ) ، لأن جواز ذلك معلوم من ضرورة الشرع . ومن جعله الولي : إما الأب وإما غيره فقد زاد شرعا ، فلذلك يجب عليه أن يأتي بدليل يبين به أن الآية أظهر في الولي منها في الزوج ، وذلك شيء يعسر .
والجمهور على أن المرأة الصغيرة والمحجورة ليس لها أن تهب من صداقها النصف الواجب لها . وشذ
[ ص: 413 ] قوم فقالوا : يجوز أن تهب ، مصيرا لعموم قوله تعالى : (
إلا أن يعفون ) .
واختلفوا من هذا الباب في المرأة إذا وهبت صداقها لزوجها ثم طلقت قبل الدخول : فقال
مالك : ليس يرجع عليها بشيء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يرجع عليها بنصف الصداق .
وسبب الخلاف : هل النصف الواجب للزوج بالطلاق هو في عين الصداق ; أو في ذمة المرأة ؟ فمن قال : في عين الصداق قال : لا يرجع عليها بشيء ، لأنه قبض الصداق كله . ومن قال : هو في ذمة المرأة قال : يرجع وإن وهبته له ، كما لو وهبت له غير ذلك من مالها . وفرق
أبو حنيفة في هذه المسألة بين القبض ولا قبض ، فقال : إن قبضت فله النصف وإن لم تقبض حتى وهبت فليس له شيء ، كأنه رأى أن الحق في العين ما لم تقبض ، فإذا قبضت صار في الذمة .