صفحة جزء
[ ص: 452 ] الباب الخامس

في التخيير والتمليك

- ومما يعد من أنواع الطلاق مما يرى أن له أحكاما خاصة : التمليك والتخيير ، والتمليك عن مالك في المشهور غير التخيير ، وذلك أن التمليك هو عنده تمليك المرأة إيقاع الطلاق ، فهو يحتمل الواحدة فما فوقها ، ولذلك له أن يناكرها عنده فيما فوق الواحدة ، والخيار بخلاف ذلك ، لأنه يقتضي إيقاع طلاق تنقطع معه العصمة ، إلا أن يكون تخييرا مقيدا ، مثل أن يقول لها : اختاري نفسك أو اختاري تطليقة أو تطليقتين ، ففي الخيار المطلق عند مالك ليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث ، وإن اختارت واحدة لم يكن لها ذلك ، والمملكة لا يبطل تمليكها عنده إن لم توقع الطلاق حتى يطول الأمر بها على إحدى الروايتين أو يتفرقا من المجلس ; والرواية الثانية : أنه يبقى لها التمليك إلى أن ترد أو تطلق .

والفرق عند مالك بين التمليك وتوكيله إياها على تطليق نفسها : أن في التوكيل له أن يعزلها قبل أن تطلق ، وليس له ذلك في التمليك .

وقال الشافعي : اختاري وأمرك بيدك سواء ، ولا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينويه ، وإن نواه فهو ما أراد إن واحدة فواحدة وإن ثلاثا فثلاثا ، فله عنده أن يناكرها في الطلاق نفسه ، وفي العدد في الخيار أو التمليك ، وهي عنده إن طلقت نفسها رجعية ، وكذلك هي عند مالك في التمليك .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : الخيار ليس بطلاق ، فإن طلقت نفسها في التمليك واحدة فهي بائنة .

وقال الثوري : الخيار والتمليك واحد لا فرق بينهما .

وقد قيل : القول قولها في أعداد الطلاق في التمليك ، وليس للزوج مناكرتها ، وهذا القول مروي عن علي ، وابن المسيب ، وبه قال الزهري ، وعطاء .

وقد قيل : إنه ليس للمرأة في التمليك إلا أن تطلق نفسها تطليقة واحدة ، وذلك مروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما ، روي أنه جاء ابن مسعود رجل ، فقال : كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس ، فقالت : لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع ، قال : فإن الذي بيدي من أمرك بيدك ، قالت : فأنت طالق ثلاثا ، قال : أراها واحدة ، وأنت أحق بها ما دامت في عدتها ، وسألقى أمير المؤمنين عمر ، ثم لقيه فقص عليه القصة ، فقال : صنع الله بالرجال وفعل ، يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه بأيدي النساء ، بفيها التراب ، ماذا قلت فيها ؟ قال : قلت : أراها واحدة ، وهو أحق بها قال : وأنا أرى ذلك ، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب .

وقد قيل : ليس التمليك بشيء لأن ما جعل الشرع بيد الرجل ليس يجوز أن يرجع إلى يد المرأة بجعل جاعل ، وكذلك التخيير ، وهو قول أبي محمد بن حزم .

وقول مالك في المملكة إن لها الخيار في الطلاق أو البقاء على العصمة ما دامت في المجلس ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، والأوزاعي ، وجماعة فقهاء الأمصار .

وعند الشافعي أن التمليك إذا أراد به الطلاق كالوكالة ، وله أن يرجع في ذلك متى أحب ذلك ما لم يوقع الطلاق .

[ ص: 453 ] وإنما صار الجمهور للقضاء بالتمليك أو التخيير ، وجعل ذلك للنساء لما ثبت من تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، قالت عائشة : ( ( خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يكن طلاقا ) ) . لكن أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق .

وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن التخيير والتمليك واحد في الحكم ، لأن من عرف دلالة اللغة أن من ملك إنسانا أمرا من الأمور إن شاء أن يفعله أو لا يفعله فإنه قد خيره .

وأما مالك : فيرى أن قوله لها اختاريني أو اختاري نفسك أنه ظاهر بعرف الشرع في معنى البينونة بتخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، لأن المفهوم منه إنما كان البينونة ، وإنما رأى مالك أنه لا يقبل قول الزوج في التمليك أنه لم يرد به طلاقا إذا زعم ذلك ، لأنه لفظ ظاهر في معنى جعل الطلاق بيدها .

وأما الشافعي : فلما لم يكن اللفظ عنده نصا اعتبر فيه النية - فسبب الخلاف : هل يغلب ظاهر اللفظ أو دعوى النية - وكذلك فعل في التخيير .

وإنما اتفقوا على أن له مناكرتها في العدد ( أعني : في لفظ التمليك ، لأنه لا يدل عليه دلالة محتملة فضلا عن ظاهره ، وإنما رأى مالك والشافعي أنه إذا طلقت نفسها بتمليكه إياها طلقة واحدة أنها تكون رجعية ، لأن الطلاق إنما يحمل على العرف الشرعي وهو طلاق السنة . وإنما رأى أبو حنيفة أنها بائنة ، لأنه إذا كان له عليها رجعة لم يكن لما طلبت من التمليك فائدة ولما قصد هو من ذلك .

وأما من رأى أن لها أن تطلق نفسها في التمليك ثلاثا وأنه ليس للزوج مناكرتها في ذلك : فلأن معنى التمليك عنده إنما هو تصيير جميع ما كان بيد الرجل من الطلاق بيد المرأة ، فهي مخيرة فيما توقعه من أعداد الطلاق .

وأما من جعل التمليك طلقة واحدة فقط أو التخيير : فإنما ذهب إلى أنه أقل ما ينطلق عليه الاسم ، واحتياطا للرجال ، لأن العلة في جعل الطلاق بأيدي الرجال دون النساء هو لنقصان عقلهن وغلبة الشهوة عليهن مع سوء المعاشرة .

وجمهور العلماء على أن المرأة إذا اختارت زوجها أنه ليس بطلاق لقول عائشة المتقدم . وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة ، وإذا اختارت نفسها فثلاث .

فيتحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاث مواضع :

أحدها : أنه لا يقع بواحد منهما طلاق .

والثاني : أنه تقع بينهما فرقة .

والثالث : الفرق بين التخيير والتمليك فيما تملك به المرأة ( أعني : أن تملك بالتخيير البينونة ، وبالتمليك ما دون البينونة ) .

وإذا قلنا بالبينونة ، فقيل : تملك واحدة ، وقيل تملك الثلاث .

وإذا قلنا إنها تملك واحدة فقيل : رجعية ، وقيل : بائنة .

وأما حكم الألفاظ التي تجيب بها المرأة في التخيير والتمليك فهي ترجع إلى حكم الألفاظ التي يقع بها الطلاق في كونها صريحة في الطلاق أو كناية أو محتملة ، وسيأتي تفصيل ذلك عند التكلم في ألفاظ الطلاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية