الباب الثاني .
في
بيع البراءة .
اختلف العلماء في جواز هذا البيع . وصورته : أن يشترط البائع على المشتري التزام كل عيب يجده في المبيع على العموم ، فقال
أبو حنيفة : يجوز البيع بالبراءة من كل عيب; سواء علمه البائع ، أو لم يعلمه ، سماه أو لم يسمه ، أبصره أو لم يبصره ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في أشهر قوليه ( وهو المنصور عند أصحابه ) : لا يبرأ البائع إلا من عيب يريه للمشتري ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري . وأما
مالك : فالأشهر عنه أن البراءة جائزة مما يعلم البائع من العيوب ، وذلك في الرقيق خاصة ، إلا البراءة من الحمل في الجواري الرائعات ، فإنه لا يجوز عنده لعظم الغرر فيه ، ويجوز في الوخش . وعنه في رواية ثانية : أنه يجوز في الرقيق والحيوان . وفي رواية ثالثة مثل قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وقد روي عنه أن بيع البراءة إنما يصح من السلطان فقط ، وقيل في بيع السلطان وبيع المواريث ، وذلك من غير أن يشترطوا البراءة .
وحجة من رأى القول بالبراءة على الإطلاق : أن القيام بالعيب حق من حقوق المشتري قبل البائع ، فإذا
[ ص: 545 ] أسقطه سقط أصله وسائر الحقوق الواجبة .
وحجة من لم يجزه على الإطلاق : أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع ، ومن باب الغبن ، والغش فيما علمه ، ولذلك اشترط جهل البائع
مالك .
وبالجملة : فعمدة
مالك ما رواه في الموطإ أن
عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه على البراءة ، فقال الذي ابتاعه
nindex.php?page=showalam&ids=12لعبد الله بن عمر : بالغلام داء لم تسمه ، فاختصما إلى
عثمان ، فقال الرجل : باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي ، وقال
عبد الله : بعته بالبراءة ، فقضى
عثمان على
عبد الله أن يحلف لقد باع العبد وما به داء يعلمه ، فأبى
عبد الله أن يحلف وارتجع العبد . وروي أيضا أن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت كان يجيز بيع البراءة . وإنما خص
مالك بذلك الرقيق لكون عيوبهم في الأكثر خافية .
وبالجملة : خيار الرد بالعيب حق ثابت للمشتري ، ولما كان ذلك يختلف اختلافا كثيرا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على الجهل به أن لا يجوز أصله إذا اتفقا على جهل صفة المبيع المؤثرة في الثمن; ولذلك حكى
ابن القاسم في المدونة عن
مالك أن آخر قوله كان إنكار بيع البراءة إلا ما خفف فيه السلطان ، وفي قضاء الديون خاصة .
وذهب
المغيرة من أصحاب
مالك إلى أن البراءة إنما تجوز فيما كان من العيوب لا يتجاوز فيها ثلث المبيع .
والبراءة بالجملة : إنما تلزم عند القائلين بالشرط ( أعني : إذا اشترطها ) إلا بيع السلطان والمواريث عند
مالك فقط .
فالكلام بالجملة في بيع البراءة هو في جوازه وفي شرط جوازه ، وفيما يجوز من العقود والمبيعات والعيوب ، ولمن يجوز بالشرط ، أو مطلقا ، وهذه كلها قد تقدمت بالقوة في قولنا فاعلمه .