وأما معرفة
الديون التي يحاص بها من الديون التي لا يحاص بها على مذهب
مالك : فإنها تنقسم أولا إلى قسمين :
أحدهما : أن تكون واجبة عن عوض .
والثاني : أن تكون واجبة من غير عوض .
فأما الواجبة عن عوض : فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض ، وإلى عوض غير مقبوض : فأما ما كانت عن عوض مقبوض ، وسواء كانت مالا ، أو أرش جناية : فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبة .
[ ص: 633 ] وأما ما كان عن عوض غير مقبوض : فإن ذلك ينقسم خمسة أقسام :
أحدها : أن لا يمكنه دفع العوض بحال كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة .
والثاني : أن لا يمكنه دفع العوض ، ولكن يمكنه دفع ما يستوفى فيه ، مثل أن يكتري الرجل الدار بالنقد ، أو يكون العرف فيه النقد ، ففلس المكتري قبل أن يسكن ، أو بعد ما سكن بعض السكنى ، وقبل أن يدفع الكراء .
والثالث : أن يكون دفع العوض يمكنه ويلزمه ، كرأس مال السلم إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال .
والرابع : أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه ، مثل السلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع .
والخامس : أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض ، مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال ، وقبل أن يحل أجل السلم .
1 - فأما الذي لا يمكنه دفع العوض بحال فلا محاصة في ذلك إلا في مهور الزوجات إذا فلس الزوج قبل الدخول .
2 - وأما الذي لا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفى منه ، مثل المكتري يفلس قبل دفع الكراء : فقيل : للمكري المحاصة بجميع الثمن وإسلام الدار للغرماء ، وقيل : ليس له إلا المحاصة بما سكن ويأخذ داره ، وإن كان لم يسكن فليس له إلا أخذ داره .
3 - وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه وهو إذا كان العوض عينا : فقيل : يحاص به الغرماء في الواجب له بالعوض ، ويدفعه ، فقيل : هو أحق به وعلى هذا لا يلزمه دفع العوض .
4 - وأما ما يمكنه دفع العوض ، ولا يلزمه : فهو بالخيار بين المحاصة ، والإمساك ، وذلك هو إذا كان العوض عينا .
5 - وأما إذا لم يكن إليه تعجيل العوض مثل أن يفلس المسلم ، وقبل أن يدفع رأس المال ، وقبل أن يحل أجل السلم : فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ، ويحاصص الغرماء برأس مال السلم ، فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء ، فإن أبى ذلك أحد الغرماء حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال ، وفي العروض التي عليه إذا حلت; لأنها من مال المفلس ، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ، ويتحاصوا فيها كان ذلك لهم .
وأما ما كان من الحقوق الواجبة عن غير عوض : فإن ما كان منها غير واجب بالشرع ، بل بالالتزام كالهبات ، والصدقات فلا محاصة فيها . وأما ما كان منها واجبا بالشرع كنفقة الآباء والأبناء ، ففيها قولان :
أحدهما : أن المحاصة لا تجب بها ، وهو قول
ابن القاسم .
والثاني : أنها تجب بها إذا لزمت بحكم من السلطان ، وهو قول
أشهب .
وأما النظر الخامس ( وهو معرفة وجه التحاص ) : فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء ، وسواء كان مال الغرماء من جنس واحد أو من أجناس مختلفة; إذ كان لا يقتضي في الديون إلا ما هو من جنس الدين إلا أن يتفقوا من ذلك على شيء يجوز .
[ ص: 634 ] واختلفوا من هذا الباب في فرع طارئ ، وهو إذا
هلك مال المحجور عليه بعد الحجر وقبل قبض الغرماء : ممن مصيبته ؟ فقال
أشهب : مصيبته من المفلس . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12873ابن الماجشون : مصيبته من الغرماء إذا وقفه السلطان . وقال
ابن القاسم : ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم; لأنه إنما يباع على ملكه ، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء ، مثل أن يكون المال عينا والدين عينا . كلهم روى قوله عن
مالك . وفرق أصبغ بين الموت والفلس فقال : المصيبة في الموت من الغرماء ، وفي الفلس من المفلس .
فهذا هو القول في أصول أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه .
وأما
المفلس الذي لا مال له أصلا : فإن فقهاء الأمصار مجمعون على أن العدم له تأثير في إسقاط الدين إلى وقت ميسرته ، إلا ما حكي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : أن لهم أن يؤاجروه ، وقال به
أحمد من فقهاء الأمصار . وكلهم مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفلس ، ولم يعلم صدقه أنه يحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين ، فإذا كان ذلك خلي سبيله . وحكي عن
أبي حنيفة : أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار .
وإنما صار الكل إلى القول بالحبس في الديون ، وإن كان لم يأت في ذلك أثر صحيح; لأن ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض ، وهذا دليل على القول بالقياس الذي يقتضي المصلحة ، وهو الذي يسمى بالقياس المرسل . وقد روي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006710أن النبي عليه الصلاة والسلام حبس رجلا في تهمة " خرجه فيما أحسب
أبو داود .
والمحجورون عند
مالك :
السفهاء ، والمفلسون ، والعبيد ، والمرضى ، والزوجة فيما فوق الثلث ; لأنه يرى أن للزوج حقا في المال ، وخالفه في ذلك الأكثر .
وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الكتاب .