خاتمة : خطاب الوضع : ما استفيد بواسطة نصب الشارع علما معرفا لحكمه ، لتعذر معرفة خطابه في كل حال . وإن قيل : خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين ، لا بالاقتضاء ولا بالتخيير . صح ، على ما سبق التنبيه عليه .
قوله : " خاتمة " ، أي : لهذا الفصل ، قد بينا عند تعريف الحكم أن خطاب الشرع إما اقتضائي أو وضعي .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : الحكم خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية .
وهو إما أن يكون من قبيل خطاب الطلب أو لا .
فإن كان الأول ، فالطلب إما للفعل أو الترك ، وكل منهما إما جازم أو غير جازم .
فإن لم يكن طلبا ، فهو إما تخيير أو لا ، والأول الإباحة ، والثاني : هو الحكم الوضعي ، كالصحة والبطلان ، ونصب الأسباب ، والشروط والموانع ، وكون الفعل إعادة ، أو قضاء ، أو أداء ، أو رخصة ، أو عزيمة .
هذا تقسيمه ، وذكرته هاهنا تطرية لذهن الناظر بتصور الحكم وتقسيمه وأقسامه ، وتكميلا للقسمة إلى نوعي الخطاب ، أعني : اللفظي والوضعي ، ويسمى هذا النوع : خطاب الوضع والإخبار .
أما معنى الوضع ، فهو أن الشرع وضع ، أي : شرع أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي ، فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط ، وتنتفي لوجود الموانع وانتفاء الأسباب والشروط . [ ص: 412 ]
وأما معنى الإخبار ، فهو أن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا بوجود أحكامه أو انتفائها عند وجود تلك الأمور أو انتفائها ، فكأنه قال مثلا : إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة ، والحول الذي هو شرطه ، فاعلموا أني أوجبت عليكم أداء الزكاة ، وإن وجد الدين الذي هو مانع من وجوبها ، أو انتفى السوم الذي هو شرط لوجوبها في السائمة ، فاعلموا أني لم أوجب عليكم الزكاة .
وكذا الكلام في القصاص ، والسرقة ، والزنى ، وكثير من الأحكام ، بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها ، وانتفاء موانعها ، وعكس ذلك .
عدنا إلى الكلام على ألفاظ " المختصر " .
قوله : " خطاب الوضع ، ما استفيد بواسطة نصب الشارع علما معرفا لحكمه لتعذر معرفة خطابه في كل حال " .
قلت : قد سبق بيان معنى الخطاب والوضع ، ومعنى كون هذا خطاب وضع .
ومعنى هذه الجملة المذكورة أن التكليف بالشريعة لما كان دائما إلى انقضاء الوجود بقيام الساعة ، كما أجمع عليه المسلمون ، وكان خطاب الشارع مما يتعذر على المكلفين سماعه ومعرفته في كل حال على تعاقب الأعصار وتعدد الأمم والقرون ، لأن الشارع إما الله سبحانه وتعالى ، وخطابه لا يعرفه المكلفون إلا بواسطة الرسل عليهم السلام الملائكة إلى الأنبياء ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، وهو غير مخلد في الدنيا حتى يعرف خطاب الله تعالى وأحكامه في الحوادث بواسطته في [ ص: 413 ] كل وقت ، بل هو بشر عاش بين الناس زمانا حتى عرفهم أحكام معاشهم ومعادهم ، ثم صار إلى رحمة الله وكرامته ، اقتضت حكمة الشرع نصب أشياء تكون أعلاما على حكمه ومعرفات له ، فكان ذلك كالقاعدة الكلية في الشريعة ، تحصيلا لدوام حكمها وأحكامها مدة بقاء المكلفين في دار التكليف ، وتلك الأشياء التي نصبت معرفات لحكم الشرع هي الأسباب والشروط والموانع ، كما سيأتي تفصيل القول فيها إن شاء الله سبحانه وتعالى .
ومثال ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكنهم لوجوده بينهم أن يسألوه عن حكم أعيان الحوادث بأشخاصها ، فيجيبهم عنها ، ويبين لهم أحكامها ، فلو اتفق في اليوم الواحد ، مثلا ، مائة زان أو سارق أو شارب خمر ، أمكنه أن يحكم في كل واحد منهم بحكم الله تعالى فيه ، إما باجتهاده أو بالوحي ، وجاز أن تكون أحكامه فيهم متفقة ومختلفة ، لأنه معصوم ، وأحكامه لا يعترض عليها بالأقيسة .
كما أنه صلى على الجهنية دون ماعز بن مالك مع أن كليهما مرجوم في الحد بإقراره .
وقد وقع في الشرع من الجمع بين المختلفات ، والفرق بين المتماثلات ، كما سيأتي في القياس إن شاء الله تعالى . [ ص: 414 ]
أما من ليس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيتعذر عليه معرفة حكم الله سبحانه وتعالى في كل حادثة بعينها ، فكان من الحكمة الشرعية وضع أمور كلية تكون معرفات لأحكام الشرع ، كقوله : من زنى محصنا ، فارجموه ، ومن سرق ، فاقطعوه ، ومن شرب المسكر فاجلدوه ، ومن قتل أو ارتد ، فاقتلوه . وأشباه ذلك الجارية على أسبابها وعللها ، فكان ذلك طريقا لنا إلى معرفة الأحكام وانتظام الشريعة على الدوام .
فهذه الأحكام - أعني : وجوب الرجم والقطع والجلد والقتل ونحوها - هي التي استفيدت بواسطة نصب الشارع أعلامها التي هي أسبابها وهي الزنى والسرقة والشرب والقتل والردة ، وهي - أعني الأحكام المذكورة - خطاب الوضع .
قوله : " وإن قيل : خطاب الشرع " ، أي : وإن قيل خطاب الوضع هو خطاب الشرع " المتعلق بأفعال المكلفين لا بالاقتضاء ولا بالتخيير ، صح على ما سبق التنبيه عليه " .
قلت : هذا تعريف آخر لخطاب الوضع ، وهو صحيح ، وقد سبق التنبيه عليه عند تعريف الحكم الطلبي ، حيث حكينا عن بعض الأصوليين أنه قال فيه : هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع ، وأن قوله : أو الوضع ، ليتناول خطاب الوضع الذي نحن الآن نتكلم فيه .
فإذا قيل هاهنا : خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين لا بالاقتضاء ، ولا بالتخيير ، لم يبق إلا خطاب الوضع المراد هاهنا ، غير أن [ ص: 415 ] التعريف بمثل هذه العبارة المتضمنة " لا " ، و " لا " فيه نافية ، لأنه بمثابة من يقول في تعريف الإنسان : هو ما ليس بفرس ، ولا شاة ، ولا ثور ، ولا طائر ، ويعد أنواع الحيوان وينفيها ، وهو مستكره ، فلذلك قدمنا في خطاب الوضع التعريف الأول .
وقد سبق أيضا التنبيه على تعريف خطاب الوضع بتعريفه الثاني من تقسيم nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي المذكور آنفا .
ثم هاهنا تنبيهات :
أحدها : أن خطاب الطلب هو الأصل ، وخطاب الوضع على خلافه ، لما ذكرناه من تعذر خطاب اللفظ في كل حال ، وقد لاح لك ذلك مما قررناه آنفا ، فالأصل أن يقول الشارع : أوجبت أو حرمت عليكم ، أو افعلوا أو لا تفعلوا ، أو ارجموا هذا الزاني ، أو اقطعوا هذا الساق .
أما جعله الزنى والسرقة علما على الرجم والقطع ، فهو خلاف الأصل من الوجه الذي ذكرناه .
الثاني : أن بعض الأصوليين يقسم خطاب الشرع إلى خطاب تكليف وخطاب وضع ، وهي قسمة من جهة أن المقصود من خطاب الوضع هو التكليف ، وكذلك ما فهم من قسمة nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي للحكم من أنه طلبي ووضعي ، هو متداخل أيضا ، لأن مقصود خطاب الوضع الطلب ، إذ لا معنى لخطاب الوضع ، إلا أن الشرع طلب منا عند قيام الأعلام التي نصبها ، أو عند بعضها فعلا أو كفا ، كقوله : أوجبت عليكم عند وجود الزنى من هذا : رجمه ، وعند وجود السرقة من هذا : قطعه ، وعند ملك النصاب ووجود الحول : الزكاة ، وعند اجتماع الحلف والحنث : الكفارة ، ونحو ذلك كثير .
والصواب في القسمة أن يقال : خطاب الشرع إما لفظي أو وضعي ، أي : إما ثابت بالألفاظ نحو : أقيموا الصلاة [ البقرة : 43 ] ، أو عند الأسباب ونحوها : كقوله : إذا زالت الشمس ، وجبت عليكم الظهر ، فاللفظ أثبت وجوب الصلاة ، والوضع عين وقت وجوبها .
أما الفرق بينهما من حيث الحكم ، فهو أن خطاب اللفظ الذي يعبر عنه بخطاب التكليف ، يشترط فيه علم المكلف وقدرته على الفعل وكونه من كسبه ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، ونحوها على ما سبق في شروط التكليف . أما خطاب الوضع ، فلا يشترط فيه شيء من ذلك إلا ما يستثنى بعد إن شاء الله تعالى . [ ص: 417 ]
أما عدم اشتراط العلم ، فكالنائم يتلف شيئا حال نومه ، والرامي إلى صيد في ظلمة أو وراء حائل يقتل إنسانا ، فإنهما يضمنان ما أتلفا ، وإن لم يعلما ، وكالمرأة تحل بعقد وليها عليها ، وتحرم بطلاق زوجها ، وإن كانت غائبة لا تعلم .
وأما عدم اشتراط القدرة والكسب ، فكالدابة تتلف شيئا ، والصبي أو البالغ يقتل خطأ ، فيضمن صاحب الدابة والعاقلة ، وإن لم يكن الإتلاف والقتل مقدورا ولا مكتسبا لهم ، وطلاق المكره عند موقعه وهو غير مقدور له بمطلق الإكراه أو مع الإلجاء ، كما سبق في موضعه .
أما المستثنى من عدم اشتراط العلم والقدرة فهو قاعدتان :
إحداهما : أسباب العقوبات ، كالقصاص لا يجب على مخطئ في القتل لعدم العلم ، وحد الزنى لا يجب على من وطئ أجنبية يظنها زوجته ، لعدم العلم أيضا ، ولا على من أكره على الزنى لعدم القدرة على الامتناع ، إذ العقوبات تستدعي وجود الجنايات التي تنتهك بها حرمة الشرع زجرا عنها وردعا ، والانتهاك إنما يتحقق مع العلم والقدرة والاختيار ، والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ، والجاهل والمكره قد انتفى ذلك فيه ، وهو شرط تحقق الانتهاك ، فينتفي الانتهاك لانتفاء شرطه ، فتنتفي العقوبة لانتفاء سببها .
القاعدة الثانية : الأسباب الناقلة للأملاك ، كالبيع ، والهبة ، والصدقة ، والوصية ، ونحوها : يشترط فيها العلم والقدرة ، فلو تلفظ بلفظ ناقل للملك ، وهو لا يعلم مقتضاه لكونه أعجميا بين العرب ، أو عربيا بين العجم ، أو طارئا على بلد الإسلام ، أو أكره على ذلك ، لم يلزمه مقتضاه ، لقوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ، وقوله سبحانه وتعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] ، ولا يحصل الرضى إلا مع العلم والاختيار . [ ص: 418 ]
والحكمة في استثناء هاتين القاعدتين التزام الشرع قانون العدل في الخلق والرفق بهم ، وإعفائهم من تكليف المشاق ، أو التكليف بما لا يطاق .
ومن هذا الباب : لو لفظ أعجمي بلفظ الطلاق ، أو عربي بلفظ الطلاق عند العجم ، وهو " بهشنم " ولم يعلما معناه ، لم يقع عند أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي . وقيل : إن نوى موجبه عند أهله وقع ، وإلا فلا . وليس هذا القول واردا على القاعدة ، لأنه حينئذ مختار عالم ، غاية ما هناك أن علمه مبهم غير معين ، لكن ذلك لا يقدح في ترتب الحكم على النية .