أحدها العلة ، وهي في الأصل العرض الموجب لخروج البدن الحيواني عن الاعتدال الطبيعي . ثم استعيرت عقلا لما أوجب الحكم العقلي لذاته ، كالكسر للانكسار ، والتسويد للسواد . ثم استعيرت شرعا لمعان : أحدها : ما أوجب الحكم الشرعي لا محالة ، وهو المجموع المركب من مقتضى الحكم وشرطه ومحله وأهله ، تشبيها بأجزاء العلة العقلية . الثاني : مقتضى الحكم ، وإن تخلف لفوات شرط ، أو وجود مانع . الثالث : الحكمة ، كمشقة السفر للقصر والفطر ، والدين لمنع الزكاة ، والأبوة لمنع القصاص .
قوله : " وللعلم المنصوب أصناف " ، أي : العلم الذي نصبه الشارع معرفا للحكم له أصناف ، وإن شئت قلت : أنواع أو أقسام ، كالعلة ، والسبب ، والشرط ، ونحوه مما ذكر ، فالعلم كالجنس ، وهذه أنواعه ، أو كالنوع ، وهذه أصنافه .
والعلم في اللغة : العلامة ، ومنه علم الطريق ، وهو أنصاب من حجارة أو غيرها شاخصة يستدل بها عليه .
قوله : " أحدها " ، أي : أحد أصناف العلم " العلة " . قوله : " وهي " ، يعني : العلة ، " في الأصل " ، أي : في أصل الوضع اللغوي أو الاصطلاحي : هي " العرض الموجب لخروج البدن الحيواني عن الاعتدال الطبيعي " ، وذلك لأن العلة في اللغة هي المرض ، والمرض هو هذا العرض المذكور ، وهو في اللغة : الظاهر بعد أن لم يكن . قال الجوهري : عرض له أمر كذا يعرض ، أي : ظهر ، وفي اصطلاح [ ص: 420 ] المتكلمين : هو ما لا يقوم بنفسه ، كالألوان ، والطعوم ، والحركات ، والأصوات ، وهو كذلك عند الأطباء ، لأنه عندهم عبارة عن حادث ما ، إذا قام بالبدن أخرجه عن الاعتدال .
وقولنا : " البدن الحيواني " احتراز من النباتي والجمادي ، فإن الأعراض المخرجة لها عن حال اعتدال ما من شأنه الاعتدال منها لا يسمى في الاصطلاح عللا .
وقولنا : " عن الاعتدال الطبيعي " هو إشارة إلى حقيقة المزاج ، وهو الحال المتوسطة الحاصلة عن تفاعل كيفيات العناصر بعضها في بعض على ما أوضحته في القواعد ، فتلك الحال هي الاعتدال الطبيعي ، فإذا انحرفت عن التوسط بغلبة الحرارة ، أو البرودة ، أو الرطوبة ، أو اليبوسة ، كان ذلك هو انحراف المزاج ، وهو العلة والمرض والسقم .
قوله : " ثم استعيرت عقلا " ، إلى آخره ، أي : ثم استعيرت العلة من الوضع اللغوي ، فجعلت في التصرفات العقلية " لما أوجب الحكم العقلي لذاته ، كالكسر للانكسار ، والتسويد " الموجب ، أي : المؤثر " للسواد " لذاته ، أي : لكونه كسرا ، أو تسويدا ، لا لأمر خارج من وضع أو اصطلاح .
وهكذا العلل العقلية هي مؤثرة لذواتها بهذا المعنى ، كالتحرك الموجب للحركة ، والتسكين الموجب للسكون .
" ثم استعيرت " العلة من التصرف العقلي إلى التصرف الشرعي ، فجعلت فيه [ ص: 421 ] " لمعان " ثلاثة :
" أحدها : ما أوجب الحكم الشرعي " ، أي : ما وجد عنده " لا محالة " ، أي : يوجد عنده قطعا ولابد " وهو المجموع المركب من مقتضى الحكم وشرطه ومحله وأهله تشبيها بأجزاء العلة العقلية " .
وذلك أن الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم قالوا : كل حادث ، فلابد له من علة ، لكن العلة إما مادية : كالفضة للخاتم ، والخشب للسرير ، أو صورية : كاستدارة الخاتم ، وتربيع السرير ، أو فاعلية : كالصائغ والنجار ، أو غائية : كالتحلي بالخاتم ، والنوم على السرير . فهذه أجزاء العلة العقلية ، ومجموعها المركب من أجزائها هو العلة التامة ، فكذلك استعمل الفقهاء لفظ العلة بإزاء الموجب للحكم الشرعي ، فالموجب له لا محالة هو مقتضيه وشرطه ومحله وأهله .
مثاله : وجوب الصلاة : حكم شرعي ، ومقتضيه : أمر الشارع بالصلاة ، وشرطه : أهلية المصلي لتوجه الخطاب إليه بأن يكون عاقلا بالغا ، ومحله : الصلاة ، وأهله : المصلي .
وكذلك حصول الملك في البيع ، والنكاح : حكم شرعي ، ومقتضيه : حكمة الحاجة إليهما ، والإيجاب والقبول فيهما ، وشرطه : ما ذكر من شروط صحة البيع والنكاح في كتب الفقه ، ومحله : هو العين المبيعة والمرأة المعقود عليها ، وأهله : كون العاقد صحيح العبارة والتصرف .
وافرض مثل ذلك في الزنى والقتل والردة ، وقطع الطريق ، فإن وجوب العقوبات فيها أحكام لها مقتضيات وشروط ومحال وأهل ، وهي ظاهرة . [ ص: 422 ]
قال الشيخ أبو محمد : فلا فرق بين المقتضي والشرط والمحل والأهل ، بل العلة المجموع ، والأهل والمحل وصفان من أوصافها .
قلت : الأولى أن يقال : هما ركنان من أركانها ، لأنه قد ثبت أنهما جزءان من أجزائها ، وركن الشيء : هو جزؤه الداخل في حقيقته .
وبالجملة فهذه الأشياء الأربعة مجموعها يسمى علة ، ومقتضى الحكم : هو المعنى الطالب له ، وشرطه : يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وأهله : هو المخاطب به ، ومحله : ما تعلق به . وقد بان المثال .
قوله : " الثاني " أي : الثاني من المعاني الثلاثة التي استعيرت لها العلة الشرعية ، وهو " مقتضى الحكم وإن تخلف " ، أي : وإن تخلف عنه الحكم " لفوات شرط أو وجود مانع " ، مثاله : اليمين هي المقتضي لوجوب الكفارة ، فتسمى علة له ، وإن كان وجوب الكفارة إنما يتحقق بمجموع أمرين : الحلف الذي هو اليمين والحنث فيها ، لكن الحنث شرط في الوجوب ، والحلف هو السبب المقتضي له فقالوا : هو علة ، فإذا حلف الإنسان على فعل شيء أو تركه ، قيل : قد وجدت منه علة وجوب الكفارة ، وإن كان الوجوب لا يوجد حتى يحنث ، وإنما هو بمجرد الحلف ، انعقد سببه . وكذا الكلام في مجرد ملك النصاب ، يقال : وجدت علة وجوب الزكاة ، لأن ملك النصاب مقتض له ، وإن لم يتحقق الوجوب إلا بعد [ ص: 423 ] حؤول الحول ، ولكن بملك النصاب ، انعقد سبب الوجوب . وكذلك الجرح علة لوجوب القصاص أو الدية ، وزهوق نفس المجروح شرط . ولهذا لما انعقدت أسباب الوجوب بمجرد هذه المقتضيات ، جاز فعل الواجب بعد وجودها وقبل وجود شرطها عندنا ، كالتكفير قبل الحنث ، وإخراج الزكاة قبل الحول .
وقوله : " لفوات شرط " ، كالقتل العمد العدوان : يسمى علة لوجوب القود ، وإن تخلف وجوبه لفوات المكافأة ، وهي شرط له ، بأن يكون المقتول عبدا أو كافرا ، " أو لوجود مانع " ، مثل : إن كان القاتل والدا ، فإن الإيلاد مانع من وجوب القصاص ، وكذلك النصاب يسمى : علة لوجوب الزكاة ، وإن تخلف الوجوب لفوات شرط ، كحؤول الحول ، أو لوجود مانع ، كالدين ، فإنه مانع لوجوب الزكاة .
قوله : " الثالث " ، أي : من المعاني الثلاثة التي استعيرت لها العلة في الشرع ، وهو حكمة الحكم ، " كمشقة السفر للقصر والفطر ، والدين لمنع الزكاة ، والأبوة لمنع القصاص " ، فيقولون : مشقة السفر هي علة استباحة القصر ، والفطر للمسافر ، والدين في ذمة مالك النصاب علة لمنع وجوب الزكاة ، والأبوة ، أي : كون القاتل أبا ، علة لمنع وجوب القصاص .
والمراد بحكمة الحكم : هو المعنى المناسب الذي نشأ عنه الحكم .
وبيان المناسبة في هذه الصور : أن حصول المشقة على المسافر معنى مناسب [ ص: 424 ] لتخفيف الصلاة عنه بقصرها والتخفيف عنه بالفطر ، وانقهار مالك النصاب بالدين الذي عليه معنى مناسب لإسقاط وجوب الزكاة عنه ، وكون الأب سبب وجود الولد معنى مناسب لسقوط القصاص ، لأنه لما كان سبب إيجاده لم تقتض الحكمة أن يكون الولد سبب إعدامه وهلاكه لمحض حقه .
واحترزنا بهذا عن وجوب رجمه إذا زنى بابنته ، فهي إذا سبب إعدامه مع كونه سبب إيجادها ، لكن ذلك لمحض حق الله سبحانه وتعالى ، حتى لو قتلها ، لم يجب قتله بها ، لأن الحق لها .