ثم هنا أمور : أحدها : الصحة في العبادات وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء .
وقيل : موافقة الأمر . ولا يرد الحج الفاسد لعدم موافقته . فصلاة المحدث يظن الطهارة ، صحيحة على الثاني دون الأول ، والقضاء واجب على القولين ، والبطلان يقابلها على الرأيين . وفي المعاملات ، ترتب أحكامها المقصودة بها عليها . والبطلان والفساد مترادفين يقابلانها ، وعند الحنفية لا ترادف . وفرقوا بينهما بما سبق .
قوله : " ثم هنا أمور ، أحدها : الصحة " إلى آخره ، يعني أننا ذكرنا من خطاب الوضع ما هو كالكليات له ، ثم هاهنا أمور وهي - وإن كانت منه - لكنها كاللواحق الجزئية له فنذكرها :
معنى هذا : أن العلماء اختلفوا في معنى صحة العبادات ، فالفقهاء قالوا : الصحة وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء ، كالصلاة الواقعة بشروطها وأركانها مع انتفاء موانعها ، فكونها كافية في سقوط القضاء ، أي أنها لا يجب قضاؤها ، هو صحتها .
والمتكلمون قالوا : الصحة موافقة الأمر ، فكل من أمر بعبادة ، فوافق الأمر بفعلها ، كان قد أتى بها صحيحة ، وإن اختل شرط من شروطها ، أو وجد مانع .
وهذا أعم من قول الفقهاء ، لأن كل صحة ، فهي موافقة الأمر ، وليس كل موافقة الأمر صحة عندهم ، والنزاع بينهم لفظي أو كاللفظي . [ ص: 442 ]
قوله : " ولا يرد الحج الفاسد لعدم موافقته " .
هذا جواب سؤال مقدر أورده الفقهاء على المتكلمين .
وتقريره : لو كانت الصحة موافقة الأمر ، لكان الحج الفاسد صحيحا ، لأنه مأمور بإتمامه ، والمضي فيه ، فالمتم له موافق الأمر بإتمامه ، فيجب أن يكون صحيحا ، لكنه فاسد باتفاق ، فوجب أن لا تكون الصحة موافقة الأمر ، بل ما ذكرنا من كونه كافيا في إسقاط القضاء .
وتقرير الجواب عن هذا السؤال : أنا لا نسلم أن الحج الفاسد وقع على موافقة الأمر ، بل على مخالفته ، حيث فعل فيه ما أفسده ، وحينئذ انتفاء صحته لانتفاء موافقة الأمر فيه . فأما كون المفسد له مأمورا بإتمامه ، فلا يلزم منه أن يكون امتثاله الأمر بإتمامه يوجب صحته لوجهين :
أحدهما : أن الأمر بإتمامه أمر طرأ على الأمر الأول : إما حفظا لحرمة الوقت من الهتك بعد انعقاد سبب احترامه بالإحرام ، أو عقوبة للمفسد له على إفساده يمنعه من التخفيف عليه ومعارضة له بنقيض قصده ، كالواطئ في نهار رمضان . ونحن إنما نريد بالأمر الذي الصحة موافقته الأمر الابتدائي ، أي : الذي أمر به المكلف ابتداء .
الوجه الثاني : أننا إنما نقول : إن الصحة موافقة الأمر فيما نعلم أن الشارع طلب منا تصحيحه ، والحج الفاسد نعلم أن الشارع لم يرد منا تصحيحه ، لأن [ ص: 443 ] تصحيحه بعد استقرار فساده محال ، والشرع ما كلفنا بالمحال ، فبان بما ذكرناه أن الحج الفاسد غير وارد .
وحاصل الجواب بالوجهين يرجع إلى تخصيص الدعوى ، فكأنهم قالوا : أردنا أن الصحة موافقة الأمر الخاص ، وهو الابتدائي ، أو ما علمنا إرادة الشرع تصحيح مأمور منا .
قوله : " فصلاة المحدث يظن الطهارة صحيحة على الثاني دون الأول " .
هذا تفريع على القولين في الصحة ، وهو أن صلاة المحدث الذي يظن أنه متطهر صحيحة على القول الثاني ، وهو قول المتكلمين : إن الصحة موافقة الأمر ، لأن هذا موافق لأمر الشرع ، لأنه أمر أن يصلي صلاة يغلب على ظنه الطهارة فيها ، وقد فعل ، فهو موافق .
وهي غير صحيحة على القول الأول ، وهو قول الفقهاء ، لأنها لم تقع كافية في سقوط القضاء .
قوله : " والقضاء واجب على القولين " ، أي : في صلاة المحدث يظن الطهارة ونحوها مما لم يقع كافيا في سقوط القضاء .
ومن هنا تبين أن النزاع لفظي ، وهو في أن هذه : هل تسمى صحيحة أم لا ؟ لأنهم اتفقوا على سائر أحكامها ، فاتفقوا على أن هذا المصلي موافق لأمر الله سبحانه وتعالى ، مثاب على صلاته ، وأنه يجب عليه القضاء إذا اطلع على [ ص: 444 ] الحدث دون ما إذا لم يطلع ، فلم يبق النزاع إلا في التسمية ، ومذهب الفقهاء أوفق للغة ، لأن العرب إنما تسمي صحيحا ما سلم من جميع جهاته ، كالآنية التي لا كسر فيها ، فهذه الصلاة ليست سالمة من كل جهة وعلى كل تقدير ، بل هي بتقدير الذكر يتبين فسادها ، ويجب قضاؤها باتفاق .
قوله : " والبطلان يقابلها على الرأيين " ، أي : البطلان يقابل الصحة على رأي الفقهاء والمتكلمين .
فمن قال : الصحة : وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء ، قال : البطلان : هو وقوع الفعل غير كاف في سقوط القضاء . ومن قال : الصحة : موافقة الأمر ، قال : البطلان : مخالفة الأمر ، فعلى هذا لو صلى المتطهر يظن أنه محدث ، وجب القضاء على القولين ، لكن عند المتكلمين ، لكونها باطلة بالمخالفة ، وعند الفقهاء لفوات الشرط ، وهو العلم بوجود الطهارة .
وشبيه بهذا ما لو اشتبهت عليه القبلة ، فصلى إلى جهة بغير اجتهاد ، فوافق جهة القبلة ، فهو مخالف بترك الاجتهاد ، فتكون باطلة على رأي المتكلمين ، وعند بعض الفقهاء تصح لوقعها بشرطها كافية في سقوط القضاء .
قوله : " وفي المعاملات " ، أي : والصحة في المعاملات ، كعقد البيع ، والرهن ، والنكاح ، ونحوها ، " ترتب أحكامها المقصودة بها عليها " وذلك لأن العقد لم يوضع إلا لإفادة مقصود ، كملك المبيع في البيع ، وملك البضع في النكاح ، فإذا أفاد [ ص: 445 ] مقصوده ، فهو صحيح . وحصول مقصوده هو ترتب حكمه عليه ، لأن العقد مؤثر لحكمه وموجب له .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بهذا .
قلت : لأن مقصود العبادة إقامة رسم التعبد وبراءة ذمة العبد منها ، فإذا أفادت ذلك كان هو معنى قولنا : إنها كافية في سقوط القضاء ، فتكون صحيحة .
قوله : " والبطلان والفساد مترادفين " ، أي : حال ترادفهما ، " يقابلانها " ، أي : يقابلان الصحة .
أي : البطلان يقابل الصحة ، والفساد يقابل الصحة أيضا ، فيقال : صحيح وفاسد ، كما يقال : صحيح وباطل ، فالفاسد والباطل مترادفان .
وعند الحنفية لا ترادف بينهما ، وفرقوا بينهما بما سبق ، يعني : في آخر مسألة توارد الأمر والنهي على الفعل عند ذكر الصلاة في المكان المغصوب ، فالفاسد والباطل عندهم من باب الأعم والأخص ، كالحيوان والإنسان ، إذ كل باطل فاسد ، وليس كل فاسد باطلا ، وعندنا هما مترادفان من باب الليث والأسد ، إذ كل فاسد باطل ، وكل باطل فاسد ، وقولي : مترادفين : حال ، لكنها بالنسبة إلى خصوص مذهبنا حال مؤكدة ، كقوله سبحانه وتعالى : وهو الحق مصدقا [ البقرة : 91 ] ، إذ لا يمكن أن يكون الفاسد والباطل غير مترادفين ، والحالة هذه ، إما بالنظر من حيث هي ، أو بالنسبة إلى مجموع المذهبين ، فهي مقيدة على القاعدة في باب الحال ، لأن التقييد حينئذ والبطلان والفساد إذا كانا مترادفين على رأينا يقابلان [ ص: 446 ] الصحة ، وإذا لم يكونا مترادفين على رأي الخصم لا يقابلانها جميعا ، إنما يقابلها مقابلة صحيحة البطلان وحده ، أما الفساد ، فإنه واسطة بينهما لا يقابل واحدا منهما ، وإن قوبلت به الصحة في تخاطب الفقهاء بينهم ، فهو اصطلاح واتساع ، والله سبحانه وتعالى أعلم .