الثالث : العزيمة لغة : القصد المؤكد ، وشرعا : الحكم الثابت لدليل شرعي خال عن معارض . والرخصة لغة : السهولة ، وشرعا : ما ثبت على خلاف دليل شرعي ، لمعارض راجح . وقيل : استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر .
قوله : " الثالث " أي : الأمر الثالث من الأمور التي هي كاللواحق لكليات خطاب الوضع ، وهو العزيمة والرخصة .
قال الجوهري : عزمت على كذا عزما وعزما بالضم ، وعزيمة وعزيما ، إذا أردت فعله وقطعت عليه ، قال الله تعالى : ولم نجد له عزما [ طه : 115 ] . " وشرعا " أي : والعزيمة في الشرع : هي " الحكم الثابت لدليل شرعي خال عن معارض " وهو معنى قول أبي محمد : هي الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي .
فقولنا : الحكم الثابت لدليل شرعي : يتناول الواجب ، والمندوب ، وتحريم الحرام ، وكراهة المكروه . فالعزيمة واقعة في جميع هذه الأحكام . ولهذا قال أصحابنا : إن سجدة ( ص ) ، هل هي من عزائم السجود أو لا ؟ مع أن سجدات [ ص: 458 ] القرآن كلها عندهم ندب .
وقولنا : لدليل شرعي : احتراز من الثابت لدليل عقلي ، فإن ذلك لا تستعمل فيه الرخصة والعزيمة .
وقولنا : خال عن معارض : احتراز مما ثبت لدليل شرعي ، لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح ، لأنه إن كان المعارض مساويا ، لزم الوقف ، وانتفت العزيمة ، ووجب طلب المرجح الخارجي ، وإن كان راجحا ، لزم العمل بمقتضاه ، وانتفت العزيمة ، وثبتت الرخصة ، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة هو عزيمة ، لأنه حكم ثابت لدليل خال عن معارض ، فإذا وجدت المخمصة ، حصل المعارض لدليل التحريم ، وهو راجح عليه حفظا للنفس ، فجاز الأكل ، وحصلت الرخصة .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : العزيمة عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى . وذكر معناه الشيخ أبو محمد أيضا .
قلت : وهي على هذا تختص بالواجبات ، وهو أشبه باللغة ، وبلفظ مقابلها ، وهو الرخصة .
أما اللغة : فقال الجوهري : الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه ، والتشديد لا يحصل إلا من الواجب فعلا أو كفا .
وأما لفظ الرخصة ، فإنه يقتضي التسهيل ، فالعزيمة ينبغي أن تقتضي التشديد . وتقريره ما ذكرناه . وقالالقرافي : العزيمة : طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه منع شرعي . قال : وإنما قلت : طلب الفعل ، ليخرج أكل الطيبات ونحوها الداخل [ ص: 459 ] في حد الإمام فخر الدين ، حيث عرف العزيمة بجواز الإقدام مع عدم المانع ، فإنه يقتضي أن يكون أكل الطيبات ولبس الثياب ونحوها عزيمة ، لأن الإقدام عليه جائز ، والمانع منه منتف . وعدم اشتهار المانع : احتراز مما إذا اشتهر المانع ، فإن العزيمة تنقلب رخصة .
قوله : " والرخصة لغة : السهولة " . ومنه : رخص السعر ، إذا سهل ولم يبق في السعر تشديد . والرخص : الناعم ، وهو راجع إلى معنى اليسر والسهولة . وقد سبق كلام الجوهري في أن الرخصة خلاف التشديد .
قوله : " وشرعا " ، أي : والرخصة في الشرع " ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح " .
فقولنا : " ما ثبت على خلاف دليل " : احتراز مما ثبت على وفق الدليل ، فإنه لا يكون رخصة ، بل عزيمة ، كالصوم في الحضر .
وقولنا : " لمعارض راجح " : احتراز مما كان لمعارض غير راجح ، بل إما مساو ، فيلزم الوقف على حصول المرجح ، أو قاصر عن مساواة الدليل الشرعي ، فلا يؤثر ، وتبقى العزيمة بحالها .
" وقيل : الرخصة : " استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر " وهو قريب من الأول . غير أن الاستباحة قد يكون مستندها الشرع ، فيلزم أن تكون لمعارضة دليل [ ص: 460 ] راجح ، كأكل الميتة في المخمصة ، فإنه استباحة للميتة المحرمة شرعا مع قيام السبب المحرم ، وهو قوله سبحانه وتعالى : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] ، لدليل شرعي راجح على هذا السبب ، وهو قوله سبحانه وتعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، فإن هذا خاص ، وسبب التحريم عام ، والخاص مقدم . هذا مع النصوص والإجماع الخاص على حفظ النفوس واستبقائها . وقد لا تكون الاستباحة مستندة إلى الشرع ، فيكون ذلك معصية محضة لا رخصة . فلو قيل : استباحة المحظور شرعا مع قيام السبب الحاظر ، لصح وساوى الأول .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : الرخصة : ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم .
وقال القرافي : هي جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعا .