الأول : قيل : هي توقيفية ، وقيل : اصطلاحية ، وقيل : مركبة من القسمين . والكل ممكن ، ولا سبيل إلى القطع بأحدها ، إذ لا قاطع نقلي ، ولا مجال للعقل فيها ، والخطب فيها يسير ، إذ لا يرتبط بها تعبد عملي ، ولا اعتقادي ، والظاهر الأول .
لنا : وعلم آدم الأسماء كلها ، قيل : ألهمه ، أو علمه لغة من قبله ، أو الأسماء الموجودة حينئذ ، لا ما حدث . قلنا : تخصيص وتأويل ، يفتقر إلى دليل .
قوله : " ثم هنا أبحاث " ، أي : ثم بعد ما قررناه من أحكام اللغات ههنا أبحاث نذكرها إن شاء الله تعالى ، وهي جمع بحث ، وأصل البحث مصدر : بحث يبحث بحثا : إذا أثار التراب ونحوه عن مكان لدفن شيء ، أو الكشف عنه ، ثم استعمل في تعرف الأحكام الشبيه بالحجج التي يطلب بها كشف تلك الأحكام تشبيها لطالب معرفة الحكم بباحث التراب .
" والأول " : أي : البحث الأول ، " قيل : هي توقيفية " ، إلى آخره .
أي : اختلف في مبدأ اللغات ، فقيل : هي توقيفية ، أي : عرفت بالتوقيف من [ ص: 472 ] الله سبحانه وتعالى ، وهو مذهب الأشعري nindex.php?page=showalam&ids=13428وابن فورك وجماعة غيرهما .
" وقيل " : هي " اصطلاحية " أي : عرفت باصطلاح الناس ، وهو مذهب أبي هاشم وأتباعه .
" وقيل : مركبة من القسمين " : التوقيف والاصطلاح ، أي : بعضها حصل بالتوقيف ، وبعضها بالاصطلاح .
ثم فيه قولان :
أحدهما : أن ابتداء اللغات الذي يحتاج إليه ضرورة التفاهم أولا وقع بالاصطلاح ، والباقي يحتمل التوقيف والاصطلاح .
والقول الثاني : إن القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاح توقيفي ، والباقي اصطلاحي ، وهذا قول الأستاذ أبي إسحاق .
قوله : " والكل ممكن ، ولا سبيل إلى القطع بأحدها " .
قلت : وهذا فيه نظر ، لأن تصرف العقل ونظره إنما يقصر عن وضع اللغات وتخصيص أسمائها بمسمياتها . أما الاستدلال على واضعها ، وكيفية ابتدائها ، فهو أمر نظري لا يقصر العقل عنه ، ولهذا استدل كل قوم على مذهبهم بالنظر العقلي ، أو المركب منه ومن النقل ، نعم إدراكه للحكم في ذلك ليس ضروريا ، فلذلك لم يحصل القطع منه .
أما دليل إمكان كل واحد من الأقوال المذكورة ، وهو قول القاضي وجمهور المحققين : [ ص: 473 ]
أما التوقيف : فبأن يخلق الله سبحانه وتعالى في المكلفين علما ضروريا بالألفاظ ومدلولاتها ونسبة بعضها إلى بعض ، فيحصل العلم لهم بها توقيفا .
وأما الاصطلاح : فبأن يجمع الله سبحانه وتعالى دواعي العقلاء بالاصطلاح على ما يتخاطبون به ، ويعينهم بالتوفيق والسداد ، فيحصل التخاطب بينهم بالاصطلاح ، والقولان الآخران يظهر إمكانهما مما ذكرناه .
قوله : " والخطب فيها يسير " ، أي : والخطب في هذه المسألة يسير ، أي : أمرها سهل ، حتى لو لم تذكر لم يؤثر في هذا العلم ولا في غيره نقصا ، إذ لا يرتبط بها تعبد عملي ولا اعتقادي ، أي : لا يتوقف عليها معرفة عمل من أعمال الشريعة ، ولا معرفة اعتقاد من اعتقاداتها .
فإن قلت : فإذا كان أمرها هكذا ، فلم أطنب الأصوليون فيها هذا الإطناب ، مع العلم بأن الكلام فيما لا ينفع ، عبث ؟
قلنا : لا شك أن كل علم من العلوم ، ففي مسائله ما يجري مجرى الضرورات التي لا بد منها ، وفيها ما يجري مجرى الرياضات التي يرتاض العلماء بالنظر فيها ، فتكون فائدتها الرياضة النظرية لا دفع الحاجة الضرورية ونحن إنما نفينا فائدة هذه المسألة في العمل والاعتقاد لا في العلم على جهة الارتياض ، وهؤلاء الفقهاء يصورون من المسائل في الوصايا والجبر والمقابلة وغيرها صورا يمتنع في العادة - أو يندر - وقوعها ، ويبحثون فيها البحث العريض [ ص: 474 ] الطويل ، وما قصدهم بذلك إلا الارتياض بها ، ليسهل عليهم معرفة المسائل الضرورية ، فهذه المسألة في أصول الفقه من رياضاته . ومسألة الأمر للوجوب أو الفور والنهي يقتضي الفساد ونحوها من ضرورياته .
قوله : " والظاهر الأول " ، أي : إن حاولنا القطع بأحد الأقوال ، فلا سبيل لنا إليه لما مر ، وإن حاولنا الظن ، فالظاهر القول الأول ، وهو التوقيف ، ولنا على ذلك قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها [ البقرة : 31 ] ، ووجه دلالته أنه سبحانه وتعالى أخبر أنه علم آدم الأسماء باللام المستغرقة ، وأكدها بلفظ كل ، وذلك يقتضي أنه وقفه عليها ، ثم توارثت ذلك ذريته من بعده بالتلقي عنه ، فلم يحتاجوا إلى اصطلاح كلي ولا جزئي .
قوله : " قيل : ألهمه " ، إلى آخره .
هذا اعتراض على دليل التوقيف من جهة الخصم .
وتقريره : أن الآية ليست نصا في التوقيف ، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى ألهم آدم وضع تلك الأسماء لمسمياتها ، ثم نسب التعليم إلى نفسه سبحانه وتعالى ، لأنه الهادي والمرشد له إليه . ويحتمل أنه علمه لغة كانت قبله اصطلحوا عليها ، فإنه يقال : إنه كان في الأرض قبل خلق آدم أمم ، ولا بد لهؤلاء من لغة يتخاطبون بها ، [ ص: 475 ] فلا يكون تعليمه للغتهم توقيفا ابتداء ، بل إيصالا للغة غيره إليه ، وإخبارا له بها . ويحتمل أنه إنما وقفه على الأسماء الموجودة حينئذ ، كالسماء ، والأرض ، والملائكة ، وما في الجنة والنار ، لا ما حدث من أسماء المسميات بعد ذلك ، فلا يكون التوقيف كليا . وبتقدير هذه الاحتمالات لا يحصل مقصودكم من الآية .
قوله : " قلنا : تخصيص " ، أي : هذا الذي عارضتم به الآية المذكورة تخصيص لظاهر عمومها ، وتأويل له على ما ذكرتم ، وهو خلاف ظاهرها ، وتخصيص العام وتأويل الظاهر يحتاج إلى دليل يصلح له ، ويكافئه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ونحن قد بينا أنه لا قاطع ولا نص في المسألة ، وإنما ادعينا الظن والظهور ، ودليلنا على ما ادعيناه ظاهر عند الإنصاف . والله سبحانه وتعالى أعلم .
فائدة : إذا ثبت أن اللغة توقيفية ، فإنها لم تقع جملة واحدة ، بل وقف آدم على ما احتاج إليه منها ، ثم كذلك من حدث من بنيه الأنبياء وغيرهم بعده ، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فأوتي منها ما لم يؤته أحد قبله ، ثم قر الأمر قراره ، وختمت به اللغة ، كما ختمت به النبوة . ذكر معنى هذا ابن فارس في كتاب فقه اللغة وسنن العرب المسمى بـ " الصاحبي " .