معنى هذا الكلام : أنا لما قلنا فيما سبق في حد الحقيقة والمجاز : إنه اللفظ المستعمل في موضوع أول ، أو في غير موضوع أول ، ثبت أن استعمال اللفظ ركن في تعريف الحقيقة والمجاز ، لأن الاستعمال جزء منه وركن الشيء جزؤه الداخل في حقيقته ، فإذا نظرنا إلى اللفظ قبل استعماله في لغة الواضع ، لم يكن حقيقة ، لأنه ليس مستعملا فيما وضع له ، ولا مجازا ، لأنه ليس مستعملا في غير ما وضع له ، وهذا الكلام فيما بعد وضع اللفظ وقبل استعماله ، وهذا مبني على أن الوضع يمكن انفكاكه عن الاستعمال ، وهو ممكن لا شك فيه ، غير أنه في غاية البعد .
أما إمكانه ، فلأنا قد بينا أن الوضع اللفظي عبارة عن إنشاء لفظ ، وتخصيصه بمعنى ، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ ، فهم منه ذلك المعنى .
والاستعمال اللفظي : هو إطلاق اللفظ بإزاء مدلوله حقيقة أو مجازا ، وهما - أعني الوضع والاستعمال - متغايران بالحد والحقيقة ، غير أن الاستعمال يستلزم الوضع ، والوضع لا يستلزم الاستعمال ، لما سنبين إن شاء الله تعالى .
وحينئذ نقول : من الجائز أن بعض واضعي اللغة يقول : قد أنشأت لفظة " الأسد " ، وخصصتها بهذا السبع الخاص ، لتدل عليه إذا أطلقت ، فإذا تخاطبتم أيها [ ص: 523 ] الناس ، فليطلق المتكلم منكم هذه اللفظة بإزاء هذا السبع ، وليفهم السامع ذلك من إطلاقها ، فيكون هذا من الواضع وضعا مجردا عن الاستعمال ، لكنه عرفهم كيفية الاستعمال . وأما بعد وقوع هذا ، فهو غني عن التوجيه ، فإنه لم ينقل ولم يشاهد ، إذ أحد من بني آدم لم يعقل أبويه أو أحدهما ، إلا وهما يتكلمان بلغتهما ، ولم تعرف العرب هذه اللغة العربية الموضوعة على غاية الحكمة إلا على ما هي عليه تفصيلا أو إجمالا ، وإذا انتفى النقل والعيان ، لم يبق إلا تصور الإمكان ، وإنما هو عبارة عن أنه لا يلزم من فرض ذلك محال ، ولا يلزم من ذلك الوقوع ، إذ ليس كل ممكن واقعا .
وينبغي التنبيه لهذا البحث ، فإنه يقع في كتب الأصوليين مجملا غير مفصل هذا التفصيل ، ولكني لما استشكلته في كتبهم ، كشفت أمره هاهنا ، إزالة للإشكال عن الناظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
والدليل على هذه الجملة : أن المجاز فرع الحقيقة ، ولذلك أوجبنا العلاقة فيه لتكون رابطة بينه وبين أصله الذي هو الحقيقة .
وإذا ثبت أن الحقيقة أصل للمجاز ، وهو فرع لها ، فبالضرورة نعلم أن [ ص: 524 ] الأصل يستغني عن الفرع ، إذ الفرع زيادة على الأصل ، والشيء الكامل الماهية يستغني عن الزيادة الخارجة عن ماهيته ، والفرع لا يستغني عن الأصل ، لأن الأصل مادة للفرع ، ومنشأ ، ومبدأ ، ووجود شيء محدث بدون منشأ ومبدأ ومادة محال .
واعتبر هذا بالولد والوالد ، فإن الوالد بالقوة ليس من ضرورته الولد ، والولد من ضرورته الوالد ، فثبت أن الحقيقة لا تستلزم المجاز ، والمجاز يستلزم الحقيقة ، وهذا أظهر القولين فيه ، وإليه الإشارة بقوله : " الأظهر الإثبات " . أي : إثبات أن المجاز يستلزم الحقيقة .
أما الخلاف في هذا ، فهو مبني على ما سبق من إمكان انفكاك الوضع عن الاستعمال ، وأن اللفظ بين وضعه واستعماله لا حقيقة ولا مجازا .
وبيانه أنا إذا فرضنا ذلك ، أمكن وجود مجاز لا حقيقة له ، بأن يقول الواضع مثلا : قد وضعت لفظ الأسد للسبع الخاص المفترس ، ولكم قبل أن تستعملوه فيه أن تطلقوه على الرجل الشجاع استعارة ، فإذا فعلوا ذلك ، كان استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مجازا لا حقيقة ، لأن شرط الحقيقة والمجاز الاستعمال كما سبق ، والاستعمال هاهنا إنما وجد في المجاز دون الحقيقة ، فهذا توجيه هذا القول على غاية ما أمكن من البيان ، وهو ضعيف .
وبيانه أنه قد بينا واتفقنا على أن شرط المجاز العلاقة ، وهي الصفة الظاهرة المشتركة بين محل المجاز وما تجوز به عنه ، لتكون رابطة بينهما ، مصححة للتجوز .
وحينئذ نقول في الصور المفروضة : استعمال لفظ الأسد في موضوعه الحقيقي ، وهو السبع الخاص ، إن انتفى في التحقيق ، فهو ثابت في التقدير ، ولا بد ، ليصح كون [ ص: 525 ] المصحح للتجوز - وهو العلاقة ، التي هي الشجاعة المشتركة بين السبع والرجل الشجاع - رابطة بينهما ، وحينئذ المجاز قد استلزم الحقيقة تقديرا ، فيصير تقدير قول القائل : إن المجاز قد لا يستلزم الحقيقة تحقيقا بل تقديرا ، فتنتقل المسألة ، ويصير النزاع في كيفية استلزام المجاز الحقيقة ، لا في نفس استلزام المجاز الحقيقة ، ويكون قد سلم محل النزاع من حيث لا يعلم ، فتنبه لهذا البحث ، فإنه لا بأس به ، والله سبحانه وتعالى أعلم .