الأولى : القراءات السبع متواترة خلافا لقوم . لنا : القول بأن جميعها آحاد ، خلاف الإجماع ، وبأن بعضها كذلك ، ترجيح من غير مرجح ; فتعين المدعى . قالوا : الآحاد واحد غير معين . قلنا : محال ، إذ التواتر معلوم ، والآحاد مظنون ; فالتمييز بينهما لازم ، وإذ لا مظنون ; فلا آحاد .
قوله : " ثم هنا مسائل " ، يعني أن الكلام فيما سبق ، مما يتعلق بالكتاب ، هو كالمقدمة الكلية له ، فلما فرغ منها ، أخذ يذكر جزئيات أحكامه :
فالمسألة " الأولى : القراءات السبع متواترة خلافا لقوم " . اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان :
فالقرآن هو الوحي النازل على محمد - صلى الله عليه وسلم - للبيان والإعجاز .
" لنا : القول بأن جميعها آحاد خلاف الإجماع " إلى آخره . هذا دليل القائلين بتواترها ، وتقريره : أنه لا يخلو إما أن تكون القراءات جميعها متواترة ، أو جميعها آحادا ، أو بعضها تواتر وبعضها آحاد ، والقول بأن جميعها آحاد خلاف [ ص: 22 ] الإجماع لأنه لا خلاف أن في القراءات تواترا ، وإنما النزاع في أن جميعها تواتر ، وفي أن هل فيها آحاد أم لا ؟ والقول بأن بعضها تواتر وبعضها آحاد ، ترجيح بلا مرجح ، إذ لا طريق لنا إلى تمييز تواترها من آحادها . فقول القائل : إن هذا البعض المعين منها آحاد ، دون هذا البعض ، تحكم محض ، وترجيح من غير مرجح ، وهو باطل . وإذا انتفى القسمان الأخيران تعين الأول ، وهو أن جميعها متواتر ، وهو المطلوب .
وهذا معنى قوله : " فتعين المدعى " .
قوله : " قالوا الآحاد واحد غير معين " ، يعني : الخصم النافي للتواتر عن القراءات جميعها ، قال : ليست القسمة في دليلكم حاصرة ، بل هنا قسم آخر ، وهو أن الآحاد من القراءات بعض غير معين ، لا جميعها ، ولا بعض معين منها .
قوله : " قلنا : محال " ، أي : القول بأن الآحاد من القراءات بعض غير معين محال ; لأن القراءات حينئذ تكون مشتملة على متواتر وآحاد ، والتمييز بين الآحاد والتواتر معلوم بالضرورة ; لأن التواتر معلوم ، والآحاد مظنون ، والتمييز بين المعلوم والمظنون حاصل بضرورة الوجدان ، كالتمييز بين الجوع والشبع ، والري والعطش ، ونحوها من الوجدانيات ، لكن ليس في القراءات مظنون ; فيلزم أن لا يكون فيها آحاد ، وإلا لوجدت الآحاد مفيدة للعلم بمجردها ، وهو محال عادة .
تنبيه : اعلم أني سلكت في هذه المسألة طريقة الأكثرين في نصرة أن القراءات [ ص: 23 ] متواترة ، وعندي في ذلك نظر ، والتحقيق أن القراءات متواترة عن الأئمة السبعة ، أما تواترها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأئمة السبعة ; فهو محل نظر ، فإن أسانيد الأئمة السبعة ، بهذه القراءات السبعة ، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودة في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد ، لم تستكمل شروط التواتر ، ولولا الإطالة والخروج عما نحن فيه ، لذكرت طرفا من طرقهم ولكن هي موجودة في كتب العراقيين ، والحجازيين ، والشاميين ، وغيرهم ، فإن عاودتها من مظانها وجدتها كما وصف لك .
وأبلغ من هذا أنها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تتواتر بين الصحابة ، بدليل حديث عمر لما خاصم nindex.php?page=showalam&ids=8859هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهم ، حيث خالفه في قراءة سورة الفرقان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت متواترة بينهم لحصل العلم لكل منهم بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يكن عمر رضي الله عنه ليخاصم في ما تواتر عنده .
[ ص: 24 ] واعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات ، ظنا منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن ، وليس ذلك بلازم ، لما ذكرناه أول المسألة ، من الفرق بين ماهية القرآن والقراءات ، والإجماع على تواتر القرآن .