[ ص: 118 ] الثانية : الجمهور على جواز التعبد به سمعا ، خلافا لبعض القدرية والظاهرية ، لنا : وجوه :
الأول : لو لم يكن ، لكان تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، الأحكام إلى البلاد على ألسنة الآحاد عبثا ، واللازم باطل ، وتبليغه كذلك تواتري . فإن قيل : اقترن بها ما أفاد العلم ، قلنا : لم ينقل ، والأصل عدمه ، ومجرد الجواز لا يكفي .
الثاني : إجماع الصحابة عليه ، وتواتره عنهم تواترا معنويا ، كقبول nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق خبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في الجدة ، وعمر خبر حمل بن مالك في غرة الجنين ، وخبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها ، وخبر nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف في المجوس ، وعثمان خبر فريعة بنت مالك في السكنى ، وعلي خبر nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق في غفران الذنب بصلاة الركعتين ، والاستغفار عقيبه . ورجوع الكل إلى خبر عائشة في الغسل بالتقاء الختانين ، واستدارة أهل قباء إلى الكعبة بخبر الواحد . في قضايا كثيرة .
ودعوى اقتران ما أفاد العلم بها مردودة بما سبق ، وبقول عمر في خبر الغرة : لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ، وظاهره الرجوع إلى مجرد الخبر .
قالوا : رد عليه السلام خبر ذي اليدين ، nindex.php?page=showalam&ids=1والصديق خبر المغيرة ، وعمر خبر أبي موسى ، وعلي خبر معقل في بروع ، وعائشة خبر nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه .
قلنا : استظهارا لهذه الأحكام لجهات ضعف اختصت بهذه الأخبار ، ثم إنها قبلت بعد التوقف فيها بإخبار اثنين بها ، ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا .
الثالث : وجب قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه بالإجماع ؛ فليجب قبول قول الراوي فيما يخبر به عن السماع ، والجامع حصول الظن . قالوا : قياس ظني ؛ فلا يثبت به أصل . قلنا : محل النزاع .
المسألة " الثانية : الجمهور على جواز التعبد به " ، أي : بخبر الواحد ، [ ص: 119 ] " سمعا " ، أي : من جهة السمع ، أي : دل السمع ، وهو دليل الشرع ، على جوازه ، " خلافا لبعض القدرية " ، وهم أكثرهم ، وبعض " الظاهرية " على ما نقل الشيخ أبو محمد .
وفي المسألة تفصيل ، وهو أن القائلين بجواز التعبد به عقلا ، منهم من نفى كونه حجة شرعا ، كالشيعة ، والقاشاني ، وابن داود ، ومنهم من أثبت ذلك . ثم هؤلاء اتفقوا على دلالة دليل السمع عليه ، واختلفوا في دلالة العقل عليه ؛ فأثبته أحمد والقفال وابن سريج ، ونفاه الباقون .
وقال أبو عبد الله البصري : هو حجة فيما لا يسقط بالشبهة ، واختار nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي أنه حجة مطلقا ، وهو المذكور في " المختصر " ، وعليه النظر .
" لنا " على جواز التعبد به سمعا " وجوه " :
الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثبت عنه بالتواتر أنه كان يبلغ الأحكام إلى البلاد على ألسنة الآحاد ، فلو لم يجز التعبد بخبر الواحد سمعا ، " لكان تبليغ الأحكام على ألسنة الآحاد عبثا " ؛ لأنه غير مفيد " واللازم " وهو العبث من الشارع " باطل " لأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، هو حكم الله تعالى ، والله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن العبث بقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا إلى قوله عز وجل : فتعالى الله الملك الحق [ المؤمنون : 115 - 116 ] ، أي : عن العبث .
[ ص: 120 ] قوله : " وتبليغه كذلك تواتري " ، أي : تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، الأحكام بطريق الآحاد ثابت بالتواتر ، وقد صدرنا الدليل بهذا .
قوله : " فإن قيل " ، إلى آخره ، هذا اعتراض على الدليل المذكور من الخصم .
وتقريره : لا نسلم أن تلك الأخبار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبلغها الناس كانت آحادا ، بل اقترن بها ما أفاد العلم من القرائن الحالية ، وقد قدمنا أن خبر الواحد إذا أفاد العلم بالقرائن كان واسطة بين التواتر والآحاد ، لا تواترا ولا آحادا ، وحينئذ فلا يبقى في تبليغها دليل على جواز التعبد بخبر الواحد المجرد .
قوله : " قلنا " ، إلى آخره ، هذا جواب الاعتراض المذكور .
وتقريره : أن ما ذكرتموه من اقتران قرائن بتلك الأخبار ، أفادت معها العلم " لم ينقل ، والأصل عدمه " ؛ فيستصحب فيه حال العدم .
غاية ما في الباب أن ذلك محتمل احتمالا مجردا ، لكن مجرد احتمال الشيء وجوازه لا يكفي في ثبوته ، وإلا لكان كل ممكن في علم الله تعالى واقعا موجودا ؛ لأنه جائز الوجود .
الوجه " الثاني : إجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه ، وتواتره عنهم تواترا معنويا " ، أي : أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على العمل بخبر الواحد ، وتواتر ذلك عنهم تواترا معنويا ، كسخاء حاتم ، وشجاعة علي رضي الله عنه ، وذلك في وقائع كثيرة جرت لهم ، نذكر منها جملة تنبه على غيرها ، وهي الوقائع التي وقعت في " المختصر " .
[ ص: 122 ] قلت : معنى هذه القصة مشهور صحيح ، من رواية nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=19والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ، غير أن مناشدة عمر رضي الله عنه لم أقف عليها .
من ذلك : قبول عمر رضي الله عنه أيضا خبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها ؛ فروى nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر رضي الله عنه : الدية على العاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا ؛ فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها . رواه أبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه .
ومن ذلك : قبول عمر رضي الله عنه أيضا خبر nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه " في " أخذ الجزية من المجوس ؛ فروى nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة ، عن عمرو عن بجالة ؛ أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس ، حتى أخبر nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف nindex.php?page=hadith&LINKID=1022104أن [ ص: 123 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر . رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وأبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه . وله من طريق آخر ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار ، عن بجالة بن عبدة ، قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية على " مناذر " ؛ فجاءنا كتاب عمر : " انظر مجوس من قبلك ؛ فخذ منهم الجزية ، فإن nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف أخبرني nindex.php?page=hadith&LINKID=1022105أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر " . قال الترمذي : هذا حديث حسن .
ومن ذلك : " رجوع لكل - أي : جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى خبر عائشة رضي الله عنها في " وجوب " الغسل بالتقاء الختانين " وذلك أن بعض الصحابة كان يفتي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن الماء من الماء ، لا غير ؛ فنازعه بعضهم في ذلك ، واشتهر الخلاف حتى صار الصحابة فيه قسمين : المهاجرين والأنصار ؛ فأرسلوا إلى عائشة أبا موسى يسألها عن ذلك ؛ فروت لهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022109إذا التقى الختانان - وفي رواية : إذا مس الختان الختان - وجب الغسل ؛ فرجعوا إلى قولها .
قوله : " في قضايا كثيرة " ، أي : هذه الوقائع عمل فيها بخبر الواحد في قضايا ، أي : مع قضايا كثيرة ، عمل فيها به ؛ فدل على أن العمل به مجمع عليه بين الصحابة رضي الله عنهم ؛ فيكون حجة .
قوله : " ودعوى اقتران ما أفاد العلم بها مردودة بما سبق ، وبقول عمر " ، إلى آخره ، أي : فإن ادعى الخصم أن الأخبار في هذه الوقائع اقترن بها قرائن أفادت معها العلم ، قلنا : دعواك هذه مردودة من وجهين :
أحدهما : ما سبق في الوجه الذي قبل هذا ، وهو أنه لم ينقل ، والأصل عدمه ، ومجرد الجواز لا يكفي .
والثاني : أنها مردودة " بقول عمر في خبر الغرة " ، السابق ذكره : " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ، وظاهره الرجوع إلى مجرد الخبر " ؛ لأنه أخبر أنه امتنع قضاؤه برأيه لوجود [ ص: 127 ] سماعه هذا الخبر ؛ فيكون الخبر بمجرده مستقلا بالمنع ، وليس فيه ذكر قرينة .
قوله : " قالوا : رد عليه السلام خبر ذي اليدين " ، إلى آخره . هذا اعتراض من الخصم على هذا الوجه ، وهو الاحتجاج بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد .
وتقريره : أن ما ذكرتموه من إجماعهم ، إن دل على العمل بخبر الواحد ؛ فقد ورد عنهم ما يدل على إجماعهم على رده ، وعدم العمل به ، وذلك في قضايا :
ومنها : أن nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق رضي الله عنه رد خبر nindex.php?page=showalam&ids=19المغيرة بن شعبة في الجدة بمجرده حتى وافقه محمد بن مسلمة ، وقد سبق .
ومنها : أن عليا رضي الله عنه رد خبر nindex.php?page=showalam&ids=235معقل بن سنان ، في بروع بنت واشق ، كذا ذكر الشيخ أبو محمد ، والمشهور فيه ما روى علقمة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، nindex.php?page=hadith&LINKID=1022114أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ، ولم يفرض لها ، ولم يدخل بها حتى مات ؛ فقال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه : لها مثل صداق نسائها ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام nindex.php?page=showalam&ids=235معقل بن سنان الأشجعي ؛ فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بروع بنت [ ص: 129 ] واشق ، امرأة منا ، مثل ما قضيت ؛ ففرح بها nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود . رواه أبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، والله أعلم بالصواب .
قالوا : فهذا رد من النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماعة من الصحابة ، لخبر الواحد ، وحينئذ رده ثابت بالنص والإجماع .
قوله : " قلنا استظهارا " ، إلى آخره ، أي : إنما ردوا هذه الأخبار ، في هذه الوقائع ، استظهارا لتلك الأحكام " لجهات ضعف اختصت بهذه الأخبار " ، في نظر أولئك الذين بلغتهم ، وذلك لا يدل على أن خبر الواحد مردود مطلقا ، " ثم إنها - يعني تلك الأخبار - قبلت بعد التوقف فيها بإخبار اثنين بها " ، كما في حديث المغيرة لما وافقه محمد بن مسلمة ، وحديث أبي موسى لما وافقه أبو سعيد ، وحديث ذي اليدين لما وافقه الشيخان ، وغيرهما " ولم تخرج بذلك - أي : بإخبار اثنين بها - عن [ ص: 130 ] كونها آحادا " ؛ فقد صار ما احتج به الخصم حجة عليه .
وبيان وجوه الموجب للتوقف في الأخبار المذكورة .
أما خبر ذي اليدين ، فإن الناس كانوا كثيرين خلف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وفيهم من هو أضبط لأفعال الصلاة من ذي اليدين ، وأحرص على كمالها ودفع النقص عنها ؛ فكان تنبيهه لوقوع النقص فيها دونهم بعيدا في العادة ؛ فلذلك توقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى وافقه الناس .
وأما خبر المغيرة في الجدة ؛ فللتوقف فيه وجهان :
أحدهما : أن المغيرة كان في الجاهلية غير متماسك تماسك غيره من العرب ، وشهد عليه بالزنى في زمن عمر رضي الله عنه ، حتى لم يبق إلا رجمه ؛ فلعل nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق رضي الله عنه تفرس فيه نوع ضعف أو تهمة ؛ فتوقف في خبره لأجله ، حتى وافقه آخر .
الوجه الثاني : أن الصديق لعله غلب في خبره معنى الشهادة على المال ، من حيث كان الثابت به مالا ، خصوصا وهو يثبت حكما مؤبدا ، لا ذكر له في الكتاب والسنة ، وهو ميراث الجدة ؛ فكان ذلك مناسبا ، بل موجبا للتوقف .
وأما خبر أبي موسى : فإن عمر رضي الله عنه كان شديد الحراسة للسنة ، والصيانة لها عن دخول ما ليس منها فيها ، وكان مع ذلك شديد الخبرة بأحاديث النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان لا يفارقه ؛ إما بنفسه ، أو بنائبه على ما دل عليه حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما عنه ، ثم إنه سمع ما لم يكن يعلمه ؛ فأحب الاحتياط لذلك ، ولهذا قال : ما كنت علمت بهذا .
[ ص: 131 ] وأما حديث معقل فتضمن أحكاما ، منها : الصداق ، وهو حق مالي ؛ فلعله غلب فيه الشهادة .
وأما حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : فإنما ردته عائشة رضي الله عنها من حيث الوهم ، لا من حيث الكذب والضعف ، ولهذا قالت : يرحمه الله ، لم يكذب ولكنه وهم .
وتقريره : أن قول المفتي يجب قبوله فيما يخبر به عن ظنه أن ما أفتى به حكم الله ، بحسب اجتهاده بالإجماع ، أي : يجب قبوله بالإجماع ؛ فليجب قبول قول الراوي فيما يخبر به عن السماع ممن فوقه ، والجامع بين فتيا المفتي ، وخبر الواحد حصول الظن فيهما .
أما في الفتيا ؛ فلأنه يغلب على ظن المفتي والمستفتي أن ما أفتى به حكم الله تعالى .
[ ص: 132 ] وأما في الراوي ؛ فلأنه يغلب على ظن السامع ، أن ما رواه ثابت عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فيجب أن يقبل ، بالقياس على الفتيا .
قوله : " قالوا " ، إلى آخره ، هذا اعتراض على هذا الوجه .
وتقريره : أن هذا قياس ظني ؛ فلا يثبت به العمل بخبر الواحد ؛ لأنه أصل قوي ؛ فلا يثبت بمثل هذا القياس .
قوله : " قلنا : محل النزاع " ، هذا جواب اعتراضهم .
وتقريره : أن كون القياس المذكور ظنيا محل النزاع ؛ فإنا لا نسلم أنه ظني ، بل هو جلي قاطع من حيث هو في معنى أصله ، وذلك أنه لا فرق بين الراوي والمفتي إلا أن هذا يخبر عن غيره ، وهذا يخبر عن ظنه ، أو أن هذا يروي قول غيره ، وهذا يروي مذهب غيره .
وتحرير الجواب عن الاعتراض المذكور : إما بما ذكرناه من منع كون القياس المذكور ظنيا ، أو بمنع كون محل النزاع - وهو جواز التعبد بخبر الواحد - قطعيا ، بل هو اجتهادي ؛ فيثبت بدلالته الظنية كالقياس المذكور وغيره .