الفصل الأول في تعريف أصول الفقه : وهو مركب من مضاف ومضاف إليه . وما كان كذلك فتعريفه من حيث هو مركب إجمالي لقبي ، وباعتبار كل من مفرداته تفصيلي .
قوله : " الأول " يعني من فصول المقدمة " في تعريف أصول الفقه " .
التعريف : هو تصيير الشيء معروفا بما يميزه عما يشتبه به بذكر جنسه وفصله ، أو لازم من لوازمه التي لا توجد في غيره ، أو شرح لفظ الغريب بلفظ مشهور مألوف .
مثال الأول : قولنا : ما الإنسان ؟ فيقال : حيوان ناطق ، وهو الحد التام .
ومثال الثاني : قولنا فيه : حيوان ضاحك ، أو قابل لصنعة الكتابة ، وفي الخمر : إنه مائع مزيل ، وهو رسمي .
ومثال الثالث : قولنا : ما الغضنفر والدلهمس ؟ فيقال : الأسد ، وما الرحيق والسلسبيل فيقال : الخمر ، وهو لفظي .
وباقي أحكام التعريف مستوفى في موضعه .
وحقيقة التعريف : هو فعل المعرف ، ثم أطلق في الاصطلاح على اللفظ المعرف به مجازا ، لأنه أثر اللافظ كما أن التعريف أثر المعرف ، والتعريف أعم من الحد ، لأن التعريف يحصل بذكر لازم ، أو خاصة ، أو لفظ يحصل معه الاطراد [ ص: 115 ] والانعكاس ، والحد لا يحصل إلا بذكر الجنس والفصل المتضمن لجميع ذاتيات المحدود ، فكل حد تعريف ، وليس كل تعريف حدا ، لأنه قد لا يتضمن جميع الذاتيات .
قوله : " وهو " يعني أصول الفقه ، رد إليه ضمير المذكر ، " مركب من مضاف ومضاف إليه " ، فالمضاف هو أصول ، والمضاف إليه هو الفقه .
والتركيب في اللغة : هو ضم شيء إلى غيره من جنسه أو غير جنسه ، ومنه تركيب الفص في الخاتم ، والنصل في السهم ، ومنه ركوب الدابة ، لأن الراكب ينضم إليها ، ويلابسها .
وهو في الاصطلاح ، مشتمل على المعنى اللغوي ، غير أن التراكيب فيما يظهر أخص من التأليف ، لأنه مأخوذ من ألف فلان فلانا ، وألف الطائر وكره يألفه ألفا ، إذا لازمه ولم يؤثر مفارقته ، وذلك لا يستلزم الانضمام والملابسة ، بل يحصل بمجرد المقاربة ، بخلاف التركيب ، فإنه تفعيل من الركوب والمماسة ، والملابسة فيه لازمة ، والله أعلم .
وأما الإضافة ، فيه في اللغة : الإمالة ، قال الجوهري : أضفت الشيء إلى الشيء ، أي : أملته .
قلت : وبعض المحققين من النحاة يقول : الإضافة الإسناد ، ومنه أضفت ظهري إلى الحائط ، أي : أسندته ، ويحتجون بقول امرئ القيس : [ ص: 116 ]
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا إلى كل حاري قشيب مشطب
يعني أسندنا ، وهذا أيضا فيه معنى الإمالة ، غير أن الإسناد أخص ، فكل مسند ممال ، وليس كل ممال مسندا على ما هو ظاهر مشاهد .
فعلى الأول : اللفظ المضاف يميل به المتكلم إلى المضاف إليه ، ليعرفه أو يخصصه ، إذ ذلك فائدة الإضافة ، أعني التعريف ، نحو : غلام زيد ، أو التخصيص ، نحو : غلام رجل ، فغلام تعرف في الأول بزيد ، وتخصص في الثاني برجل عن أن يكون غلام امرأة .
وعلى الثاني : اللفظ المضاف يسنده المتكلم إلى المضاف إليه في تعريفه أو تخصيصه ، وقد حصل في الإضافة اللفظية الضم الذي هو حقيقة التركيب ، لأن المضاف مضموم إلى المضاف إليه لفائدة الإضافة المذكورة .
قوله : " وما كان كذلك فتعريفه من حيث هو مركب إجمالي لقبي ، وباعتبار كل من مفرداته تفصيلي " يعني ما كان من المسميات مركبا تركيب إضافة ، كقولنا : أصول الفقه ، وأصول الدين ، فالإشارة بقوله : كذلك إلى قوله : وهو مركب ، أي : وما كان مركبا ، فتعريفه من حيث هو مركب ، أي : فتعريفه باعتبار مجموع لفظه الذي تركب منه إجمالي لقبي ، أي : يسمى بذلك في الاصطلاح ، وتصح تسميته بذلك لمن سماه .
والإجمال ، هو جعل الشيء جملة ، كما سيأتي بيانه في باب المجمل إن شاء الله تعالى .
واللقب : هو اللفظ المطلق على معين ، وهو نوع من العلم .
غير أن الفرق بينهما : أن اللقب علم يكره من وضع عليه أن يخاطب به لقبح فيه ، كقولهم : أنف الناقة ، وعائد الكلب ، ونحوهما من الألقاب ، ولهذا سمي التخاطب به تنابزا ونبزا ، قال الجوهري : اللقب واحد الألقاب ، وهي الأنباز ، وقال في نبز : النبز : اللقب .
قلت : ولفظ النبز مشعر بكراهة ، وروى عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله سبحانه وتعالى : ولا تنابزوا بالألقاب [ الحجرات : 11 ] قال : لا تقل لأخيك المسلم : يا فاسق ، يا منافق . وروى عن معمر عن الحسن ، قال : كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيقولون له : يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك .
قلت : فهذا يدل على ما قلته من أن اللقب علم يكرهه المخاطب به ، بخلاف العلم ، فإنه أعم من ذلك ، أي : قد يكون مما يكره التخاطب به وهو اللقب ، وقد لا يكون العلم لقبا كزيد وعمرو .
وهذه العبارة وهي قولنا : " من حيث هو مركب " تقع كثيرا في كلام الأصوليين المتأخرين ، وقد يغمض معناها على بعض الناس ممن لم يعان تلك العبارات .
ومعنى قولهم : الحكم على هذا الشيء من حيث هو كذا ، أي : من جهة كونه كذا ، لأن حيث في اللغة ظرف مكان ، والمكان مجاور للجهة في الحقيقة [ ص: 118 ] والتصور ، لأن الجهة مقصد المتحرك ، فلا تنفك عن المكان حقيقة وتصورا . فقولنا : " فتعريفه من حيث هو مركب إجمالي " أي : من جهة تركيبه ، أو من الجهة التي هو منها مركب ، ولا شك أن كل مركب ، فله من حيث حقيقته وجهان أحدهما جهة أجزائه التي تركب منها ، والثاني جهة حقيقته المجتمعة من تلك الأجزاء ، ويختلف النظر فيه والحكم عليه باختلاف جهته .
مثاله : أنا إذا عرفنا الحبر من جهة تركيبه من مفرداته التي هي العفص والزاج والصمغ ، قلنا : الحبر مائع أسود يكتب به ، وإذا عرفناه باعتبار كل واحد من مفرداته ، قلنا : العفص : جوهر نباتي مستدير ، خشن الظاهر مضرس ، والزاج : جوهر مستحجر أبيض ، طبعه التسويد . والصمغ : جوهر تدفعه طبيعة الشجر فيسيل على ظاهره .
وكذلك قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، فإذا عرفنا مفردات أجزائه ، قلنا : اليد عضو آلي معد للبطش ، والرجل كذلك لكنه معد للمشي .
فقد رأيت اختلاف الأحكام على الحقائق باختلاف جهاتها .
إذا ثبت هذا فمعنى قولنا : إن تعريف المركب من جهة كونه مركبا إجمالي ، أي : فيه إجمال وعموم وغموض بالنسبة إلى تعريفه من جهة تفصيله ومفردات تركيبه ، كما يتبين فيما بعد ، وسننبه عليه إن شاء الله تعالى . [ ص: 119 ]
ومعنى تسمية هذا التعريف لقبا أنه من جهة كون المعرف لقبا على مفهومه ، مثاله : أن لفظ أصول الفقه لقب على مدلوله ، وهو العلم بالقواعد التي تستنبط بها الأحكام ، والتفصيلي منسوب إلى التفصيل ، أي تعريفه من جهة تفصيل مفرداته .
وقوله : " باعتبار كل من مفرداته " أي باعتبار كل واحد ، أو كل مفرد من مفرداته ، فحذف المضاف إليه لدلالة ما بعده عليه ، كقوله تعالى : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] ، وكلا وعد الله الحسنى [ النساء : 95 ] ، وكل أتوه داخرين [ النحل : 87 ] . ومثال أصول الفقه في تعريفه الإجمالي واللقبي : أصول الدين فيهما .
فنقول في تعريفه الإجمالي : هو العلم الكاشف عن أحكام العقائد ، أو القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة أحكام العقائد .
ونقول في تعريفه التفصيلي : الأصول : الأدلة ، كما قلنا في أصول الفقه ، والدين في اللغة : الطاعة والعادة والشأن والجزاء والمكافأة .
وفي الاصطلاح : هو الشريعة الواردة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالضرورة هذا أدخل في البيان من الأول .