يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل ، خلافا لقوم . لنا : الرفع لا يستلزم البدل ، ولا يمتنع رد المكلف إلى ما قبل الشرع ، ثم تقديم الصدقة أمام النجوى وغيره نسخ لا إلى بدل . قالوا : نأت بخير منها يقتضيه . قلنا : لفظا لا حكما ، أو نأت منها بخير ، على التقديم والتأخير .
ونسخ الحكم بأخف منه إجماعا .
وبمثله ، لا يقال : هو عبث . لأنا نقول : فائدته امتحان المكلف بانتقاله من حكم إلى حكم .
وبأثقل منه ، خلافا لبعض الظاهرية . لنا : لا يمتنع لذاته ، ولا لتضمنه مفسدة ، وقد نسخ التخيير بين الفدية والصيام إلى تعيينه ، وجواز تأخير صلاة الخوف إلى وجوبها فيه ، وترك القتال إلى وجوبه ، وإباحة الخمر ، والحمر الأهلية والمتعة إلى تحريمها . قالوا : تشديد ; فلا يليق برأفة الله تعالى ، الآن خفف الله عنكم ، يريد الله بكم اليسر ، أن يخفف عنكم . قلنا : منقوض بتسليطه المرض والفقر وأنواع الآلام والمؤذيات . فإن قيل : لمصالح علمها . قلنا : فقد أجبتم عنا ، والآيات وردت في صور خاصة .
المسألة " الخامسة : يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل " عند الأكثرين ، " خلافا لقوم " ، وهم الأقلون .
" لنا : الرفع لا يستلزم البدل " ، إلى آخره . هذا دليل الجواز ، وهو من وجهين :
أحدهما : أن النسخ رفع الحكم ، والرفع لا يستلزم البدل ، بل يمكن وجوده بدون بدل ، واعتبر ذلك بالمحسوسات ; فإنه ليس من ضرورة رفع الحجر من مكانه أنه يضع [ ص: 297 ] مكانه غيره ، بل ذلك على الجواز ، وكذلك وقع النسخ في الشريعة ، تارة إلى البدل ، وتارة لا إلى بدل .
وأيضا : لا يمتنع أن يعلم الله تعالى مصلحة المكلف في نسخ الحكم عنه لا إلى بدل ، ورده إلى ما قبل الشرع من إباحة أو حظر أو وقف ، على ما سبق من الخلاف .
الوجه الثاني : لو لم يكن النسخ لا إلى بدل جائزا ، لما وقع ، لكنه قد وقع ; فيكون جائزا ، وإنما قلنا : إنه وقع في الشرع ; لأن تقديم الصدقة أمام النجوى ، أي : بين يدي النجوى ، وغيره من الأحكام ، نسخ لا إلى بدل .
وشرح ذلك : أن الصحابة رضي الله عنهم أكثروا من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عطية : روي عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وقتادة في سببها : أن قوما من شباب المؤمنين ، كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، في غير حاجة ، إلا لتظهر منزلتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمحا لا يرد أحدا ; فنزلت هذه الآية مشددة عليهم أمر المناجاة .
وقال مقاتل : نزلت في الأغنياء ; لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومجلسه ، ثم نسخ ذلك .
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة والكلبي في قوله : إذا ناجيتم الرسول [ المجادلة : 12 ] ، قالا : إنها منسوخة ، ما كانت إلا ساعة من نهار . قال الكلبي : جاء علي رضي الله عنه بدينار ; فتصدق به ، وكلم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأمسك الناس عن كلام النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل التخفيف ; فقال : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات حتى بلغ : خبير بما تعملون [ المجادلة : 13 ] .
قلنا : ليست هذه أبدالا ; لأنها كانت واجبة قبل ذلك ، بموجب أصل التكليف ، وإنما معنى الآية : إذ لم تفعلوا ; فارجعوا إلى ما كنتم عليه أولا ، من إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول .
ومما يذكر من أمثلة النسخ لا إلى بدل : نسخ وجوب الإمساك بعد النوم في الليل ، وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام ، متى نام أحدهم قبل أن يفطر ، حرم عليه الأكل حتى الليلة الثانية ; فخفف ذلك عنهم ، بنسخه بإباحة الأكل إلى طلوع الفجر ، من غير بدل .
ومن ذلك نسخ اعتداد المتوفى عنها حولا ، باعتدادها أربعة أشهر وعشرا ; فتمام الحول نسخ لا إلى بدل .
وبعضهم يمنع كون هذا نسخا ، والصحيح أنه نسخ لدخوله في حد النسخ ، وكونه ثبت لحكمة ، ثم زال بزوالها ، لا يمنع كونه نسخا ، إذ سائر صور النسخ كذلك .
قوله : " قالوا : نأت بخير منها يقتضيه " . هذا دليل الخصم .
وتقريره : أن قوله سبحانه وتعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 106 ] ، يقتضي أن النسخ لا بد أن يكون إلى بدل كما يقال : ما تبع من جارية أو غلام ، تشتر خيرا منه ، أو مثله .
قوله : " قلنا : لفظا لا حكما " . هذا جواب عن الدليل المذكور من وجهين :
أحدهما : أن لزوم البدل في نسخ الآية لفظا لا حكما ، يعني أنه ينسخ آية بآية ; فلفظ الآية الناسخة بدل عن لفظ المنسوخة ، كقوله عز وجل : وإذا بدلنا آية مكان آية [ النحل : 101 ] ، لا أنه أراد أن أي حكم نسخناه ، أبدلنا مكانه حكما ، ولا يلزم من البدل اللفظي البدل الحكمي .
الوجه الثاني : أنه قد قيل : إن في الكلام تقديما وتأخيرا . والتقدير : ما ننسخ من آية : نأت منها بخير ، أي : نأت من نسخها بخير للمكلفين ، وهو تخفيف حكمها بالنسخ ، أو غير ذلك من المصالح ، هذا الذي ذكر في " المختصر " .
[ ص: 300 ] وههنا جوابان آخران : أحدهما : لا نسلم أن الآية تقتضي بدلا في النسخ أصلا ; لأن الإتيان ببدل الآية مثلها ، أو خيرا منها ، وقع جوابا للشرط ، الذي هو النسخ ; فهو مشروط له ، والمشروط ملزوم للشرط ، ولا يلزم من انتفاء الملزوم انتفاء اللازم ، ولا ثبوته ; فانتفاء البدل في النسخ ، لا يدل على انتفاء اللازم ولا ثبوته ، وإذا لم يكن لانتفاء البدل دلالة على النسخ ، نفيا ولا إثباتا ، جاز أن يوجد النسخ بدون البدل ، وهو المطلوب .
الوجه الثاني : سلمنا أنه لا بد في النسخ من بدل ، قد يكون في [ غير ] المصلحة ; فيكون عدم بدل الحكم أصلح للمكلف ; فهذه المصلحة بدل عن مصلحة المنسوخ ، وإن لم يخلفه حكم ; لأنها مصلحة عدمية ، أي : ناشئة عن عدم الحكم .
وأجاب القرافي عن الآية : بأنها صيغة شرط ، ولا يلزم في الشرط أن يكون ممكنا ، بل قد يكون محالا ، كقولنا : إن كان الواحد نصف العشرة ; فالعشرة اثنان ; فهذا شرط محال ، والكلام عربي صحيح ، وإذا لم يستلزم الشرط الإمكان ، لم يدل على الوقوع مطلقا ; فضلا عن الوقوع ببدل .
قوله : " ونسخ الحكم بأخف منه " ، أي : يجوز نسخ الحكم بأخف منه بالإجماع ; لأنه تخفيف عن المكلف ، وهو فضل من الله سبحانه وتعالى غير ممتنع ، بل هو عام الجود على خلقه .
قوله : " لا يقال : هو عبث " هذا تقرير سؤال على هذه الدعوى ، وهو أن يقال : نسخ الحكم بمثله عبث ; لأن كل واحد من المثلين يسد مسد الآخر ; فالنقل عنه [ ص: 301 ] إلى مثله من غير فائدة زائدة عبث ، وترجيح من غير مرجح .
قوله : " لأنا نقول " هذا جواب السؤال المذكور .
وتقريره : لا نسلم أن نقل المكلف عن حكم إلى مثله لا فائدة له ، بل فائدته امتحان المكلف ، بانتقاله من حكم إلى حكم ، وفي ذلك دليل على انقياده ، وطاعته ، وعدم مخالفته . فإنا لو قدرنا أن الشرع قال لنا الآن : لا تصلوا الظهر بعد زوال الشمس ، بل صلوها قبل الزوال ، أو صلوا الفجر بعد طلوع الشمس . فبادر قوم إلى ذلك ، وتوقف قوم ; فقالوا : حقيقة الزمان واحدة ; فما الفرق بين بعد الزوال وقبله ، وبين طلوع الشمس وبعده ، حتى ينقلها إليه ؟ لكان المبادرون إلى الامتثال أفضل وأطوع ، لتركهم الاعتراض ، بل لو قال قائل : لم وجبت الظهر بعد الزوال ولم تجب قبله ؟ وما الفرق بين الزمانين مع تماثلهما ؟ لعد معترضا متكلفا ; فكان من لا يعترض بذلك أفضل منه ، لسكوته عن التعرض ، وانقياده للتعبد .
[ ص: 303 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : ومنع منه أيضا بعض الشافعية .
قوله : " لنا : لا يمتنع " ، إلى آخره ، أي : لنا على جواز النسخ إلى الأثقل وجهان :
أحدهما : أنه لو امتنع ، لامتنع لذاته ، أو لتضمنه مفسدة ، لكنه لا يمتنع لواحد منهما ; فلا يمتنع أصلا .
وإنما قلنا : إنه لا يمتنع لذاته ; لأنه لو قدر وقوعه ، لم يلزم منه محال لذاته ، بل قد وقع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولم يلزم منه محال ; فدل على أنه لا يمتنع لذاته ، أي : لكونه نسخا للأخف إلى الأثقل .
وإنما قلنا : إنه لا يمتنع لتضمنه مفسدة ; لأن الأصل عدم المفسدة فيه ، وما يدعيه الخصم مفسدة فيه ، سنجيب عنه إن شاء الله عز وجل ، بل قد يتضمن مصلحة عظيمة ، وهو تدريج المكلف من الأخف إلى الأثقل ; فيسهل عليه ، ولا يتبرم به ; فبان بما ذكرناه أن ذلك لا يمتنع لذاته ولا لغيره ; فلا يكون ممتنعا أصلا ; فيكون جائزا .
الوجه الثاني : أن ذلك قد وقع ، والوقوع دليل الجواز . وبيان وقوعه بصور :
إحداهن : نسخ التخيير بين الفدية والصيام إلى تعيينه ; فإنهم كانوا في صدر الإسلام ، يخير أحدهم بين أن يصوم ، وبين أن يفطر ويطعم ; فنسخ ذلك إلى وجوب الصيام عينا ، وذلك أثقل من التخيير بين الأمرين .
الصورة الثانية : تأخير صلاة الخوف حال القتال إلى وجوبها على حسب الإمكان بقوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ البقرة : 239 ] ، وكان لهم قبل ذلك تأخيرها حتى ينقضي القتال ، ووجوبها في وقته أثقل .
قوله : " قالوا : تشديد " ، إلى آخره . هذا دليل المانعين ، وهو من وجهين :
أحدهما : أن النسخ إلى الأثقل تشديد على المكلف ، وذلك لا يليق برأفة الله عز وجل ورحمته ; لأن شأنه التسهيل على خلقه ، لا التشديد عليهم .
[ ص: 306 ] الوجه الثاني : النصوص الدالة على التخفيف والتيسير ، نحو قوله سبحانه وتعالى : الآن خفف الله عنكم [ الأنفال : 66 ] ، يعني خفف عنكم ثبات الواحد لعشرة في الجهاد ، بالاقتصار على ثباته لاثنين .
قالوا : والنسخ إلى الأثقل عسر ، والله عز وجل قد أخبر أنه لا يريده ، وما لا يريده يستحيل وقوعه ; فالنسخ إلى الأثقل يستحيل وقوعه ، وهو المطلوب .
قوله : " قلنا : منقوض " ، إلى آخره ، هذا جواب عن الوجهين .
أما عن الأول - وهو قولهم - تشديد لا يليق بالرأفة الإلهية - : فبأنه " منقوض بتسليطه المرض والفقر وأنواع الآلام ، والمؤذيات على الخلق " ، مع أنه تشديد عليهم ; فكان ينبغي أن لا يقع ، وحيث وقع ; فالنسخ إلى الأثقل مثله ; فليكن وقوعه جائزا .
قوله : " فإن قيل : لمصالح علمها " ، هذا جواب من الخصم عن النقض المذكور .
وتقريره : أن النقض بالمرض ، والفقر ، والآلام ، لا يلزمنا ; لأن ابتلاءه الخلق [ ص: 307 ] بذلك ، لمصالح علمها لهم فيه .
قوله : " قلنا : فقد أجبتم عنا " ، أي : هذا الجواب مشترك بيننا وبينكم ; فهو جوابنا عن كون النسخ إلى الأثقل تشديدا ، وهو أن نقول : النسخ إلى الأثقل لمصلحة علمها فيه ، كما أن ابتلاءه لهم بالمرض ، وسائر المكاره ، لمصالح علمها لهم فيه ، ثم ما ذكروه من التشديد منتقض عليهم أيضا بأصل التكليف ; فإنه تشديد ، وتركه أسهل عليهم ; فمقتضى قولهم : عدم التكليف بالكلية ، لكنه قد ثبت باتفاق ، كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، وسائر العبادات الدينية ، والاعتقادية ، والعملية .
قوله : " والآيات وردت في صور خاصة " ، يعني الآيات الواردة في التخفيف ، وردت في أحكام خاصة ، وليست عامة ، حتى يحتج بعمومها على منع النسخ إلى الأثقل .
وأما قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر [ البقرة : 185 ] ; فهو في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر ، واللام في اليسر والعسر وإن احتمل أنها للاستغراق ، لكنها محمولة على المعهود ، وهو اليسر الحاصل بالإفطار ، للمريض والمسافر ، والعسر الحاصل لهما بالصوم في حالة المرض والسفر . على أن ابن الخشاب حكى في " المرتجل " عن بعض أهل العلم ، أن الكلام متى كان فيه [ ص: 308 ] معهود ، تعين رجوع اللام إليه ، وإنما يحمل على الاستغراق إذا انتفى المعهود ، والله تعالى أعلم بالصواب .