لنا : لا يمتنع لذاته ، ولا لغيره ، وقد وقع ، إذ التوجه إلى بيت المقدس ، وتحريم المباشرة ليالي رمضان ، وجواز تأخير صلاة الخوف ، ثبتت بالسنة ، ونسخت بالقرآن .
احتج بأن السنة مبينة للكتاب ; فكيف يبطل مبينه ، ولأن الناسخ يضاد المنسوخ ، والقرآن لا يضاد السنة ، ومنع الوقوع المذكور .
وأجيب بأن بعض السنة مبين له ، وبعضها منسوخ به .
المسألة " السادسة : يجوز نسخ كل من الكتاب ، ومتواتر السنة ، وآحادها بمثله " ، أي : يجوز نسخ الكتاب بالكتاب ، ومتواتر السنة بمتواترها ، وآحادها بآحادها . وهذا اتفاق لا اختلاف فيه ; لأن ذلك متماثل ; فجاز أن يرفع بعضه بعضا .
فإن قيل : المثلان يستويان من كل وجه ، ويسد أحدهما مسد الآخر ، وحينئذ يكون ارتفاع أحدهما بالآخر ترجيحا من غير مرجح ، إذ ليس أحدهما أولى بأن يرتفع بالآخر من العكس .
فالجواب : أن هذا السؤال قد سبق على حد النسخ ، بأنه رفع الحكم ، وسبق الجواب عنه ، بأن الناسخ أولى بأن يكون رافعا بقوته ، بكونه واردا .
قوله : " ونسخ السنة " ، أي : ويجوز نسخ السنة " بالكتاب خلافا nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي " .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : وهو جائز عقلا ، وواقع سمعا عند الأكثر ، من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء ، وممتنع في أحد قولي nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
[ ص: 316 ] قوله : " لنا : لا يمتنع لذاته " ، إلى آخره ، أي : لنا على جوازه وجهان :
أحدهما : أنه لا يمتنع لذاته ، أي : لكونه نسخ السنة بالقرآن ، ولا لغيره ; لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ، ولا لغيره . وقد سبق تقرير هذه الملازمة قريبا ، وإذا لم يمتنع لذاته ، ولا لغيره ، كان جائزا .
الوجه الثاني : أنه قد وقع ، والوقوع يدل على الجواز ، وبيان وقوعه بصور :
إحداهن : التوجه إلى بيت المقدس ، ثبت بالسنة ، ونسخ بقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة : 144 ] .
وذكر nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي صورة أخرى ، وهي صلح النبي صلى الله عليه وسلم ، لأهل مكة يوم الحديبية ، على أن يرد إليهم من جاءه من عندهم ، ثم نسخ ذلك في النساء بقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ الممتحنة : 10 ] ; فهذه أحكام ثبتت بالسنة ، ونسخت بالكتاب ، وذلك دليل الجواز .
قوله : " احتج " ، يعني nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، " على ما ذهب إليه بوجهين " :
أحدهما : لو جاز نسخ السنة بالكتاب ، لكان الكتاب مبطلا لمبينه ، لكن ذلك باطل ; فالقول بنسخ السنة بالكتاب باطل .
[ ص: 317 ] وأما أن إبطال القرآن لمبينه باطل ; فلأنه إذا بطل مبينه ، بقي بغير مبين ; فيرجع إلى الإجمال الموجب للتوقف فيه ، وتعطيل ألفاظه عن الاستعمال . وأيضا السنة مبينة للقرآن ; فلو بينها القرآن بنسخه لها ، لزم الدور ، إذ يصير كل منهما مبينا للآخر .
الوجه الثاني : أن الناسخ يضاد المنسوخ ، والقرآن لا يضاد السنة ، وإلا لما كانت بيانا له ; فالقرآن لا يكون ناسخا للسنة .
قوله : " ومنع الوقوع المذكور " ، أي : nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي منع وقوع نسخ السنة بالكتاب في الصور المذكورة ، وبيان المنع من وجهين :
أحدهما أن الأحكام المذكورة ، يجوز أنها ثبتت بقرآن نسخ رسمه ، وبقي حكمه ، كما سبق في آية الرجم ، ثم نسخت تلك الأحكام بالقرآن ; فما نسخ القرآن إلا قرآن مثله .
الثاني : بتقدير أن تلك الأحكام ثبتت بالسنة ، يجوز أنها نسخت بسنة وافقت القرآن في حكمه ; فما نسخت السنة إلا بسنة مثلها .
قوله : " وأجيب بأن بعض السنة مبين له ، وبعضها منسوخ به " . هذا جواب عن الوجهين nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي .
وأما توجيهه عن الثاني ; فنقول : القرآن لا يضاد السنة في الكل ، أو في البعض ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، وحينئذ ذلك البعض المضاد للقرآن من السنة منسوخ به ، وحينئذ لا دور ولا محذور .
[ ص: 318 ] وأما الجواب عن المنع ; فقوله : الأحكام المذكورة ثبتت بقرآن نسخ رسمه ، وبقي حكمه ، ثم نسخت بالقرآن .
قلنا : الأصل عدم قرآن نسخ رسمه ، ثبتت به تلك الأحكام ، واحتماله لا يكفي ، وما وجد من أفعال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأقواله ، وتقريراته في ذلك ، كصلاته إلى بيت المقدس ، صالح لإثبات تلك الأحكام ; فوجب أن تضاف إليه .
وقوله : يجوز أن الأحكام المذكورة نسخت بسنة وافقت القرآن .
قلنا : ليس النزاع في الجواز ، بل في الوقوع ، ولم يقم دليل وجود سنة ناسخة كما ذكرتم ، والقرآن في ذلك موجود صالح للنسخ ; فوجب إضافة الحكم إليه .
نعم ذكر القرافي في منع كون التوجه إلى بيت المقدس ثبت بالسنة كلاما جيدا .
وتقريره : أن القاعدة : أن كل ما كان ثابتا بمجمل فهو مراد من ذلك المجمل ، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى بيت المقدس ، هو بيان لقوله عز وجل : أقيموا الصلاة [ البقرة : 110 ] ، كما كان قوله عليه السلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022178فيما سقت السماء العشر بيانا لمجمل قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] ، وآتوا الزكاة [ البقرة : 110 ] ، وهو مراد من الآية : وإذا ثبت أن التوجه إلى بيت المقدس مراد من القرآن ; فهو ثابت بالقرآن بواسطة البيان .
قلت : وهذا يتجه أن يقال في تأخير صلاة الخوف عن وقت القتال ; لأنه من [ ص: 319 ] لوازم بيان قوله عز وجل : أقيموا الصلاة ; لأن المراد بإقامتها إكمالها وإتمامها ، وهو متعذر حال القتال ; فكان تأخيرها إلى وقت الأمن من لوازم إقامتها ، وكذلك صلحه عليه السلام للكفار ، على رد من جاءه منهم مسلما ، هو بيان لقوله عز وجل : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين [ التحريم : 9 ] ، وجهادهم مفوض إلى اجتهاد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، على حسب ما يرى من المصلحة . وقد رأى من المصلحة صلحهم على ذلك .
قلت : ثم يتفرع لنا على هذا تحقيق ، وهو أن الحكم ، هل يضاف ثبوته إلى البيان ، أو إلى المبين ؟
فإن أضيف إلى البيان ، اتجه ما قلناه من وقوع نسخ السنة بالكتاب ; لأن تلك الأحكام المذكورة ثبتت بالسنة التي هي بيان للقرآن ، ثم نسخت بالكتاب ; فقد نسخت السنة بالكتاب .
وإن أضيف إلى المبين ; فقد اتجه ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي من منع الوقوع ; لأن الأحكام المذكورة إنما ثبتت بالقرآن المجمل الذي بينته السنة ، ثم نسخت بالقرآن ; فما نسخ القرآن إلا قرآن مثله .
وبعد هذا كله ; فجانب القائلين بجواز نسخ السنة بالكتاب مترجح بما ذكرناه من الدليل عليه .
وأما الوقوع ; فبنسخ تحريم المباشرة ليالي رمضان بعد النوم ، إذ لا يتجه فيه أن يقال : كان ثابتا بقرآن مجمل بينته السنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .