وأجيب : بأن نأت بخير منها في الحكم ومصلحته ، والسنة تساوي القرآن في ذلك ، وتزيد عليه ، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أعظم من الثابتة بالقرآن . أو على التقديم والتأخير ; فلا دلالة في الآية أصلا . والحديث لا يخفى مثله ، لكونه أصلا ; فلو ثبت لاشتهر ، ولما خولف . ولفظ القرآن معجز ; فلا تقوم السنة مقامه ، بخلاف حكمه .
قوله : " أما نسخ القرآن بمتواتر السنة ; فظاهر كلام أحمد والقاضي منعه ، وأجازه أبو الخطاب ، وبعض الشافعية ، وهو المختار " .
وقال الشيخ أبو محمد في " الروضة " : قال أحمد : لا ينسخ القرآن إلا قرآن مثله يجيء بعده . قال القاضي : ظاهره أنه منع منه عقلا وشرعا .
قلت : احتجاج القاضي بعموم نفي أحمد ، وهو إنما يدل على المنع منه شرعا ، لا عقلا .
قلت : حكى nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي المنع في المسألة عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأكثر أصحابه ، وأكثر الظاهرية ، وعن أحمد في أحد قوليه . وحكي الجواز عن مالك ، والحنفية ، وابن سريج ، وأكثر الأشاعرة والمعتزلة .
[ ص: 321 ] قال القرافي : هو جائز عند أكثر أصحابنا .
قوله : " لنا : لا استحالة " ، إلى آخره . هذا دليل الجواز ، وهو من وجهين :
أحدهما : أنه لو استحال ، لاستحال لذاته ، أو لأمر خارج عن ذاته ، لكنه لا يستحيل لذاته ، ولا لأمر خارج ; فلا يكون مستحيلا مطلقا ; فيكون جائزا مطلقا . وتقرير هذا الدليل : كتقرير قولنا في المسألة قبلها : " لنا : لا يمتنع لذاته ولا لغيره " ، وقد سبق .
قوله : " قالوا : نأت بخير منها " إلى آخره هذه حجة المانعين وهي من وجوه :
أحدها : قوله تعالى : " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ ص: 322 ] [ البقرة : 106 ] ; فحصر الله تعالى الناسخ في كونه خيرا من المنسوخ ، أو مثله ، والسنة لا تساوي القرآن ; فضلا عن أن تكون خيرا منه ; فلا تكون ناسخة له .
الوجه الثالث : أن السنة لا تنسخ لفظ القرآن ; فكذلك لا تنسخ حكمه ، لاشتراك لفظ القرآن وحكمه في القوة والتعظيم ، وصيانته عن أن يرفع بما هو دونه . والجواب عن الأول : أن المراد بالآية : نأت بخير منها في الحكم ومصلحته ، والسنة تساوي القرآن في ذلك ، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن ; إما في عظم الأجر ، بناء على نسخ الأخف بالأثقل ، أو في تخفيف التكليف ، بناء على نسخ الأثقل بالأخف .
قوله : " أو على التقديم والتأخير " . هذا جواب آخر عن الآية ، وهو أن فيها تقديما وتأخيرا ، تقديره : ما ننسخ من آية نأت منها بخير ; فلا يكون فيها دلالة على محل النزاع أصلا ، إذ لا دلالة فيها على إثبات الناسخ أصلا ، كما سبق في النسخ إلى غير بدل .
وأما الحديث ; فلا تقوم الحجة بمثله ههنا ; لأنه أصل كبير ، ومثله لا يخفى في العادة ، لتوفر الدواعي على نقل ما كان كذلك عادة . فلو ثبت ، لاشتهر ، ثم لم يخالفه أحد من العلماء لشهرته ودلالته .
[ ص: 323 ] سلمنا صحته ، لكنه ليس نصا في محل النزاع ، بل هو ظاهر ; لأن لفظه عام ، ودلالة العام ظاهرة ، لا قاطعة ; فيحمل على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ، يبقى المتواتر لا دليل على المنع فيه من ذلك .
فجوابه بالفرق ، وهو أن لفظ القرآن معجز ، والسنة لا تقوم مقامه في الإعجاز ، بخلاف حكمه ، فإن المراد منه تكليف الخلق به ، والسنة تقوم مقامه في ذلك ، والله تعالى أعلم .
قلت : تلخيص مأخذ النزاع في المسألة أن بين القرآن ومتواتر السنة جامعا وفارقا .
فالجامع بينهما : ما ذكرناه من إفادة العلم ، وكونهما من عند الله تعالى .
والفارق : إعجاز لفظ القرآن ، والتعبد بتلاوته ، بخلاف السنة ; فمن لاحظ الجامع ، أجاز النسخ ، ومن لاحظ الفارق ، منعه .
فرع : كما اختلفوا في جواز نسخ القرآن بمتواتر السنة ، كذلك اختلفوا في وقوعه شرعا ، على نحو اختلافهم في جوازه ; فممن أثبته بعض المالكية ، ومنعه nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
[ ص: 324 ] واحتج المانعون : بأن القول بالوقوع يستدعي دليلا ، والأصل عدمه ، وما ذكرتموه من الصورتين المذكورتين لا حجة فيهما على الوقوع ، بل النص النبوي فيهما بيان لا نسخ . فآية الوصية نسخت بآية الميراث ، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ، نسخها ببيانه ، والإيضاح عنه ، ولهذا يقول : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث . فكان هذا بيانا وإخبارا عن زوال وجوب الوصية للوارث ، لا نسخا .
وأما الآية الأخرى ; فالسبيل مذكور فيها ، والأمر فيها مغيي إلى حين جعل السبيل ، فلما جاء وقته ، بينه النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022183خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا . فأضاف جعل السبيل إلى الله تعالى ، لا إلى نفسه ، ولو سلمنا أن إمساكهن في البيوت منسوخ ، لكان إضافة نسخه إلى قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] ، وإلى آية الرجم التي نسخ لفظها دون حكمها أولى ، ثم لا نسلم أن الخبرين المذكورين تواترا ; فمثال الخصم غير صحيح ، والله تعالى أعلم .