[ ص: 325 ] أما نسخ الكتاب ومتواتر السنة بآحادها ; فجائز عقلا ، لجواز قول الشارع : تعبدتكم بالنسخ بخبر الواحد ، لا شرعا ، لإجماع الصحابة . وأجازه قوم في زمن النبوة ، لا بعده ; لأنه عليه السلام كان يبعث الآحاد بالناسخ إلى أطراف البلاد . وأجازه بعض الظاهرية مطلقا ، ولعله أولى ، إذ الظن قدر مشترك بين الكل ، وهو كاف في العمل والاستدلال الشرعي . وقول عمر : لا ندع كتاب ربنا ، وسنة نبينا ، لقول امرأة ، لا ندري أحفظت أم نسيت . يفيد أنه إنما رده لشبهة ، ولو أفاد خبرها الظن لعمل به .
قوله : " أما نسخ الكتاب ومتواتر السنة بآحادها ; فجائز عقلا " ، إلى آخره ، أي : أما نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ونسخ السنة المتواترة بخبر الواحد ; فهو جائز عقلا لا شرعا .
أما أنه جائز عقلا ; فلجواز قول الشارع : تعبدتكم بنسخ القاطع بخبر الواحد ، أي : لا يمتنع ذلك ، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال .
وأما امتناعه شرعا ، أي : من جهة دليل الشرع ; قال الشيخ أبو محمد : لإجماع الصحابة على أن القرآن ، ومتواتر السنة ، لا يرفع بخبر الواحد ; فلا ذاهب إلى تجويزه ، حتى قال عمر رضي الله عنه : " لا ندع كتاب ربنا ، وسنة نبينا ، لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت " .
" وأجازه بعض الظاهرية مطلقا " ، يعني في زمن النبوة وبعده .
قلت : " ولعله أولى " ، أي : يشبه أنه أولى ، لاتجاهه بما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولم أجزم بذلك ، ولهذا أتيت بلفظ الترجي .
[ ص: 326 ] قوله : " إذ الظن قدر مشترك بين الكل ، وهو كاف في العمل ، والاستدلال الشرعي " . معناه أن تواتر السنة وآحادها يشتركان في إفادة الظن ، وإن زاد التواتر بإفادة القطع ; فالظن بينهما قدر مشترك ، وهو كاف في العمل الشرعي ، والاستدلال الشرعي ، أي : يكفي الظن في أن يكون مستندا للعمل والاستدلال شرعا ، بناء على أن مناط ذلك غلبة الظن ; فمتى حصل ، وجب العمل ، وصح الاستدلال .
وأما زيادة القطع ; فهي غير معتبرة ، لما سبق في مسألة وجوب العمل بخبر الواحد .
وإذا كان الظن مشتركا بين التواتر والآحاد ، وهو كاف في العمل ، جاز أن ينسخ الآحاد المتواتر ويكون النسخ بالآحاد متوجها إلى مقدار الظن من التواتر ، لا إلى جميع ما أفاده من العلم ، ونظير هذا ما إذا كان لزيد على عمرو خمسة دراهم ، ولعمرو على زيد عشرة دراهم ، تقاصا بالقدر المشترك بين الحقين ، وهو خمسة ; فتقوى الخمسة على رفع خمسة من الذمة ، لا على ما زاد عليها .
وبهذا يندفع عنا قول الخصم : إن الكتاب متواتر قطعا ; فلا يرتفع بالآحاد المظنونة ; لأنا نقول : ما رفعنا القطع بالظن ، وإنما رفعنا بالظن ظنا مثله ، كما قررناه .
وهذا لا يفيد أن خبر الواحد لا ينسخ الكتاب والمتواتر ، بل يفيد جوازه ، وذلك لأن عمر ، إنما رد خبر فاطمة ، لشبهة احتمال أنها نسيت ، وهو يدل على أن خبرها لو أفاده الظن ، ولم تقع له الشبهة المذكورة ، لعمل به .
وأما قول من فرق بين زمن النبوة وبعده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يبعث الآحاد بالناسخ إلى أطراف البلاد ; فلا حجة فيه لوجهين :
أحدهما : أن هذا مبني على قاعدة أخرى ، وهي أن تلك الآحاد كانت تنسخ الكتاب والمتواتر ، بناء على أنه يبعد أن يكون جميع المنسوخات بتلك الآحاد آحادا . ولقائل أن يدعي ذلك ، ويقول : إنما كان المنسوخ بها آحادا مثلها ، إذ الأصل عدم التواتر ، وورود أحكام الكتاب .
فإن قيل : والأصل عدم الآحاد أيضا .
قلنا : نعم ، إلا أنها أكثر ، وأعم وجودا ; فالحمل عليها أولى .
غاية ما هناك : أن مستند العلم في المنسوخ التواتر ، وفي الناسخ المجموع المركب من خبر الواحد والقرينة ، وهذا لا يضر .
وأما ما ادعاه المانعون مطلقا ، من إجماع الصحابة على عدم رفع المتواتر بخبر الواحد ; فممنوع ، وعلى مدعي الإجماع على ذلك إثباته ، كيف وبعض الظاهرية ، والباجي من أصحاب مالك يدعون وقوعه في صور :
[ ص: 329 ] تنبيه : الأدلة النقلية التي يتطرق النسخ إليها وبها ، هي : الكتاب ، ومتواتر السنة ، وآحادها ، وكل واحد منها ; إما أن ينسخ بمثله من جنسه ، أو بالآخرين معه ; فيحصل من ذلك تسع صور :
والضابط في ذلك ، على المشهور بينهم : أن النص ينسخ بأقوى منه وبمثله ، ولا ينسخ بأضعف منه ; فيسقط بمقتضى هذا الضابط من الصور التسع صورتان ، نسخ الكتاب بالآحاد ، ونسخ التواتر بالآحاد ، ويبقى سبع صور ، النسخ فيها جائز .
وعلى قول الباجي وبعض الظاهرية ، وهو الذي وجهناه ، يصح النسخ في الصور التسع ، نظرا إلى القدر المشترك بينها ، وهو الظن ; فاعلم ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .