الأصول : الأدلة الآتي ذكرها ، وهي جمع أصل ، وأصل الشيء ما منه الشيء ، وقيل : ما استند الشيء في وجوده إليه ، ولا شك أن الفقه مستمد من أدلته ، ومستند في تحقق وجوده إليها .
قوله : " وبالثاني " : أي وأصول الفقه بالاعتبار الثاني ، وهو تعريفه باعتبار كل واحد من مفرداته [ الأصول الأدلة ] ، لأن المادة التي تركب منها لفظ أصول الفقه ، هي الأصول والفقه ، فهما مفردا ذلك المركب ، فيحتاج في تعريفه التفصيلي إلى تعريف كل واحد منهما على حدته .
فالأصول : " الأدلة الآتي ذكرها " يعني : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وما في خلال ذلك من القواعد الأصولية .
قوله : " وهي " : يعني الأصول ، " جمع أصل " ، هذا بيان لها من حيث جمعها وإفرادها ، وما كان من الأسماء على فعل - ساكن العين - فبابه في جمع القلة على أفعل ، نحو أفلس وأكلب ، وفي الكثرة على فعال وفعول ، نحو حبل وحبال ، وكلب وكلاب ، وكعب وكعاب ، وفصل وفصول ، وأصل وأصول ، وفرع وفروع .
وأما من حيث اشتقاقه اللغوي ، فلم أر فيه شيئا فيما وقفت عليه ، غير أني أحسب أنه من الوصل ضد القطع ، وأن همزته منقلبة عن واو ، لما في الأصل من معنى الوصل ، وهو اتصال فروعه ، كاتصال الغصن بالشجرة حسا ، والولد بوالده نسبا وحكما ، والحكم الشرعي بدليله عقلا .
قوله : " وأصل الشيء ما منه الشيء ، وقيل : ما استند الشيء في وجوده إليه " . [ ص: 124 ]
هذان تعريفان للأصل ، فالأول ذكره في " الحاصل " ، والثاني هو معنى قول nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي : أصل كل شيء : ما يستند تحقق ذلك الشيء إليه ، وزاد في غير " المنتهى " : من غير تأثير احترازا من استناد الممكن إلى المؤثر ، مع أنه ليس أصلا له .
والتعريف الثاني أعم من الأول ، لأن ما كان من شيء فهو مستند إليه في وجوده ، وليس كل مستند في وجوده إلى شيء يكون منه .
قوله : " ولا شك أن الفقه مستمد من أدلته ، ومستند في تحقق وجوده إليها " .
هذا بيان وتقرير لكون التعريفين المذكورين متطابقين للمعرف بهما ، وهو الأصل ، لأن الفقه يستمد من أدلته ، بمعنى أنها مادة له باعتبار جنس المعنى ، لا باعتبار خصوص تركيب الألفاظ ، فقولنا : الماء الباقي على إطلاقه طهور ، سواء نزل من السماء ، أو نبع من الأرض ، هو مستمد من قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان : 48 ] ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به [ الأنفال : 11 ] ، لأن معناها واحد ، وإن اختلفت تراكيب الصيغ ، لكن الألفاظ غير مقصودة لذاتها ، بل لإظهار المعاني .
فعلى هذا " من " في قوله : ما منه الشيء : للتبعيض ، أي : ما بعضه الشيء ، والفرع بعض أصله ، كالولد من الوالد ، والغصن من الشجرة ، وقد بينا : أن الفقه مقتطع من أدلته اقتطاع الولد من الوالد ، والغصن من الشجرة ، أو نحوه .
ويجوز أن تكون " من " فيه : لابتداء الغاية ، على معنى أن أدلة الفقه من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوها ، هي مبدأ ظهوره ، ومنها ابتداء بيانه ، وهذا أظهر المعنيين في " من " ، وكذلك بالنظر إلى التعريف الثاني ، [ ص: 125 ] الفقه مستند في وجوده إلى أدلته ، بمعنى أنها لو لم توجد هي لم يوجد هو ، إذ لو لم يوجد قوله عليه السلام : nindex.php?page=hadith&LINKID=1022016من بدل دينه فاقتلوه لم يحكم بقتل المرتد ، إلى غير ذلك من الأحكام التي لو لم توجد أدلتها لم يحكم بها .
والاستناد ، هو اعتماد الشيء إلى غيره ، بحيث لو زال ذلك الغير لم يستقر ذلك الشيء ، وكذلك الفقه مع أدلته ، لو زالت لم يستقر الفقه ، وقد وقع ذلك كثيرا في الأحكام المنسوخة ، كانت ثابتة قبل النسخ لبقاء أدلتها محكمة ، فلما زالت الأدلة التي هي مستند الأحكام لم تستقر الأحكام ، بل زالت بزوالها ، ووزان ذلك من المحسوسات من استند إلى جدار ، فمال الجدار ووقع ، فإن المستند إليه يقع بالضرورة . هذا الكلام على ألفاظ المختصر .
وقال في " المحصول " : الأصل هو المحتاج إليه .
ورد ، بأن الشيء قد يحتاج إلى ما ليس أصلا له ، كالمأكول والمشروب والملبوس ، والزوجة والولد وغير ذلك ، فالمحتاج إليه أعم من الأصل ؛ إذ كل أصل محتاج إليه ، وليس كل محتاج إليه أصلا .
وقال أبو إسحاق - وقد تقدم ذكره - : أصول الفقه ، هي الأدلة التي يبنى عليها الفقه .
وقال القاضي في " العدة " : أصول الفقه ، عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه [ ص: 126 ] وتعلم أحكامها به ، لأن أصل الشيء ما تعلق به ، وعرف منه ، إما باستخراج أو تنبيه .
قلت : ما ذكره في أصول الفقه صحيح ، أما قوله : أصل الشيء ما تعلق به ، فليس بجيد ، إذ قد يتعلق الشيء بما ليس أصلا له ، كتعلق الحبل بالوتد في المحسوسات ، وتعلق السبب بالمسبب ، والعلة بالمعلول في المعقولات .
وقال القرافي : أصل الشيء : ما منه الشيء لغة ، ورجحانه ودليله اصطلاحا ، يعني أن أصل الشيء في اللغة مادته كما ذكرناه أولا ، نحو قولنا : أصل السنبلة البرة ، أي : هي مادتها .
وأما في الاصطلاح ، فيطلق الأصل على رجحان الشيء ، نحو : الأصل براءة الذمة ، أي : هو راجح ، ولهذا احتيج في دعاوى الحقوق إلى البينات ، ليصير جانب المدعي راجحا بعد أن كان مرجوحا ، وكقولنا في قوله تعالى : أو لامستم النساء [ النساء : 43 ] : المراد حقيقة الملامسة باليد ، لأن الأصل عدم المجاز .
والمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة لا يخرج منها ، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، والعبد الغائب تجب فطرته ، لأن الأصل بقاؤه .
والمراد في هذا كله ، أن الأصل هو الراجح ، أو أن الرجحان الأصل .
ويطلق أيضا في الاصطلاح ، على الدليل ، نحو : أصول الفقه أدلته . وهذا الذي قاله القرافي توسط جيد ، وهو أن الأصل في اللغة هو المادة ، وفي الاصطلاح [ ص: 127 ] الرجحان والدليل .
" تنبيه " زعم بعض المتعنتين ، أن تعريف الشيء بـ " ما " ، نحو قولنا : أصل الشيء : ما منه الشيء ، وأصول الفقه ، ما ينبني عليه الفقه ، ونحو ذلك ، قبيح أو غير صحيح ، قال : لأن المراد من التعريف الإيضاح والإفهام ، ولفظ " ما " شديد الإبهام ، فالتعريف به ينافي المقصود .
وهذا كلام لا طائل تحته ، لأن ما وإن كانت شديدة الإبهام ، غير أن التعريف ليس بها وحدها ، بل بها وبما بعدها ، وبمجموعهما يحصل الكشف عن حقيقة المحدود .
فلا فرق إذا بين قولنا : أصل الشيء ما منه الشيء ، وبين قولنا : أصل الشيء معلوم أو موجود أو جسم منه الشيء .
ولا فرق بين قولنا : ما يستند تحقق الشيء إليه . وبين قولنا : معلوم أو موجود ، أو جسم يستند تحقق الشيء إليه .
نعم ، المناقشة على ذلك من وجه آخر ، وهو أن شأن الحدود والتعريفات أن يوضع فيها الجنس الأقرب ، ثم يميز بما يفصل النوع المقصود عن غيره من أنواع ذلك الجنس ، ولفظ ما عام في الجنس القريب والبعيد ، فلا يعلم منه أيهما المراد .
فلو قال قائل : الإنسان : ما كان ناطقا ، لم يعلم هل المراد ما كان من الحيوان ناطقا ، فيكون قد أتى بالجنس القريب ، كقوله : حيوان ناطق ، أو ما كان من الأجسام أو المعلومات أو الموجودات ناطقا ، فيكون قد أتى بالجنس البعيد ، نحو قوله : [ ص: 128 ] جسم ناطق أو معلوم أو موجود ناطق ، فيكون قد أخل بالمختار في الاصطلاح ، وأفسد الحد بتناوله الملك والجني ، إذ كل منهما معلوم وموجود ناطق .
والجواب : أن الحذاق لا يطلقون لفظ ما في التعريف إلا مع قرينة تدل على الجنس القريب ، والقرائن في المخاطبات كالألفاظ ، بل أبلغ في الإفهام ، إذ قد تكون القرينة عقلية قاطعة واللفظ مجملا ، فتكون القرينة أدل منه .
مثال ذلك قول القائل : العلم مثلا : معرفة الشيء على ما هو ، ثم يقول : والفقه ما عرف منه أحكام أفعال المكلفين .
فإن تقديمه لتعريف العلم ، دلنا على أن مراده بما التي عرف بها الفقه نوع من أنواع العلم ، فكأنه قال : الفقه : علم يعرف به أحكام أفعال المكلفين .
وكذلك من قال : الكلمة : لفظ وضع لمعنى مفرد ، وأنواعها : اسم وفعل وحرف ، ثم قال : الاسم : ما دل على معنى في نفسه ، تقديمه لتعريف الكلمة ، وأن الاسم من أنواعها ، دل على أن مراده بـ " ما دل على معنى " : كلمة دلت على معنى .
فأما من أطلق لفظ ما في هذا الباب من غير قرينة دالة على المراد ، أو على وجه يفسد به التعريف ، فذاك ممن لا كلام معه بإقرار ولا إنكار .