[ ص: 330 ] السابعة : الإجماع لا ينسخ ، ولا ينسخ به ، إذ النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة ، ولا إجماع إذن . ولأن الناسخ والمنسوخ متضادان ، والإجماع لا يضاد النص ، ولا ينعقد على خلافه .
قوله : " إذ النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة ، ولا إجماع إذن " .
هذا دليل على أن حكم الإجماع ، أي : الحكم الثابت بالإجماع ، لا ينسخ ، أي : لا يكون منسوخا .
وتقريره : أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة ، والإجماع لا يكون إلا بعد عهد النبوة ، ويلزم من ذلك أن حكم الإجماع لا ينسخ .
أما أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة ; فلأن النسخ رفع للحكم ، وإبطال له ، وتغيير ، وذلك إنما يكون في عهد النبوة ; لأنه زمن الوحي الرافع للأحكام ، وبعد [ ص: 331 ] انقراض عهد النبوة يستقر الشرع ; فلا يجوز تغيير شيء منه ، ولا يبقى إلا اتباع ما انقرض عليه عصر النبوة .
وأما أن الإجماع لا يكون إلا بعد عهد النبوة ; فلأن الاعتماد في زمن النبوة ، على قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لعصمته ، ولا اعتبار بغيره ; لأنه إذا حكم بحكم ; فالأمة إما أن توافق ; فلا أثر لموافقتها ; لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم ، هو المستقل بإثبات الحكم ، أو تخالف ; فلا اعتبار بمخالفتها ، بل تكون عاصية بمخالفته ; فبان بهذا أن الإجماع لا يكون معتبرا مؤثرا إلا بعد موته .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي إن نسخ الحكم الثابت بالإجماع نفاه الأكثرون ، وأثبته الأقلون . واختار جوازه عقلا ، وامتناعه شرعا .
قلت : أما جوازه عقلا فلما سبق من أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال .
وأما امتناعه شرعا ; فلأن نسخه إما بنص ، أو إجماع ، أو قياس .
والأول باطل ; لأنه يلزم انعقاد الإجماع على خلاف النص .
والثاني باطل ; لأن الإجماع الناسخ ; إما لا عن دليل ; فيكون خطأ ، أو عن دليل .
فذلك الدليل ; إما نص أو قياس ، فإن كان نصا ، لزم انعقاد الإجماع الأول على خلافه ; فيكون باطلا ، وإن كان قياسا ; فلابد وأن يستند القياس إلى نص ; فيكون الإجماع الأول على خلافه أيضا ، وهو باطل ، وبذلك يبطل كون ناسخ الإجماع قياسا ، والله تعالى أعلم .
قوله : " ولأن الناسخ والمنسوخ متضادان ، والإجماع لا يضاد النص ، ولا ينعقد [ ص: 332 ] على خلافه " . هذا دليل على أن الإجماع لا يكون ناسخا .
وتقريره : أن المنسوخ إنما يكون نصا ، لما قد بينا قبل من أن الإجماع لا يكون منسوخا ، وإذا انحصر المنسوخ في كونه نصا ; فلو نسخ بالإجماع ، للزم مضادة النص للإجماع ; لأن الناسخ والمنسوخ ، لا بد أن يتضادا ، لكن الإجماع لا يضاد النص ، ولا ينعقد على خلافه ; لأن ذلك يقتضي بطلانه ، لانعقاده على مخالفة الدليل .
وذكر الآمدي أن كون الإجماع ناسخا ، أثبته بعض المعتزلة ، وعيسى بن أبان ، ونفاه الباقون ، واختاره ، واستدل عليه بأن الإجماع لو كان ناسخا ، لكان دليل الحكم المنسوخ ; إما نصا ، أو إجماعا ، أو قياسا ، فإن كان نصا ; فالإجماع الناسخ لا بد له من مستند ، وإلا كان خطأ ، وذلك المستند هو الناسخ ، لا نفس الإجماع ، لكن دل عليه الإجماع ; فالإجماع دليل الناسخ ، لا نفس الناسخ . وإن كان دليل الحكم المنسوخ إجماعا ; فلو نسخ بالإجماع ، لزم تعارض الإجماعين ; فأحدهما باطل ; فلا نسخ .
وإن كان دليل الحكم المنسوخ قياسا ; فهو إما غير صحيح ; فلا عبرة به ; فلا نسخ ، وإن كان صحيحا ; فالإجماع الناسخ ، إن استند إلى نص ; فالنص هو الناسخ ، والإجماع دل عليه كما سبق ، وإن كان قياسا ، فإن كان مساويا للقياس الأول ، أعني الذي هو دليل الحكم المنسوخ ، أو راجحا عليه ; فالقياس الأول ليس قياسا صحيحا ، لإجماع الأمة على خلافه ، ولرجحان غيره عليه ، وإن كان مرجوحا ; فالإجماع على حكمه خطأ ; فلا نسخ ، والله تعالى أعلم بالصواب .
قوله : " والحكم القياسي المنصوص العلة يكون ناسخا ومنسوخا ، كالنص ، بخلاف غيره " . معنى هذا الكلام أن الحكم القياسي ، أي : الثابت بالقياس ; إما أن [ ص: 333 ] يكون منصوص العلة ، أو لا ، فإن كان منصوص العلة ، أي : قد نص الشارع على علته ، كان ذلك القياس كالنص ينسخ ، وينسخ به ، أي : يكون ناسخا ومنسوخا ، كما أن النص كذلك ; لأن القياس لا بد وأن يستند إلى نص ، فإذا كانت علة القياس منصوصا عليها في ذلك النص ، صار حكم القياس منصوصا عليه بواسطة القياس ; فيكون نصا يصح أن يكون ناسخا ومنسوخا .
مثال ذلك : لو قال : حرمت الخمر المتخذ من العنب ، لكونه مسكرا ، فإذا قسنا عليه نبيذ التمر المسكر ، في التحريم ، كان تحريم هذا النبيذ حكما منصوصا على علته ، حتى كأنه قال : حرمت نبيذ التمر المسكر ; فلو فرض أن الشرع قال : أبحت نبيذ الذرة المسكر ، جاز أن يكون تحريم نبيذ التمر المسكر ; المستفاد من القياس ناسخا لذلك ، إذا ثبت تأخره عن إباحة نبيذ الذرة ، ومنسوخا بإباحة نبيذ الذرة إذا ثبت تقدم تحريم نبيذ التمر ، وذلك لأن تحريم نبيذ التمر ، وإباحة نبيذ الذرة حكمان متضادان مع اتحاد علتهما ، وهي الإسكار ; فكان المتأخر منهما ناسخا للمتقدم ، كما لو قال : أبحت الخمر ، ثم قال : حرمتها ، أو بالعكس .
وأما إن لم يكن الحكم الثابت بالقياس منصوصا على علته ، لم يجز أن يكون ناسخا ولا منسوخا ; لأن العلة إذا لم تكن منصوصة ; فهي مستنبطة ، واستنباطها هو باجتهاد المجتهد ، واجتهاد المجتهد عرضة الخطأ ; فلا يقوى على رفع الحكم الشرعي ، بخلاف النص على العلة ; فإنه حكم الشارع المعصوم من الخطأ ; فهو [ ص: 334 ] يقوى على ذلك ، فإذا قسنا الذرة على البر والشعير ، في تحريم التفاضل ، بجامع الكيل ، بناء على أنه العلة فيهما ، ثم قال الشارع : أبحت التفاضل في السمسم ، لم يجز لنا أن نجعل الإباحة في السمسم ناسخة للتحريم في الذرة ، ولا التحريم في الذرة ناسخا للإباحة في السمسم ; لأن النسخ لا بد فيه من تضاد الناسخ والمنسوخ ، ونحن لا نعلم أن إباحة التفاضل في السمسم ، وتحريمها في الذرة متضادان ، لجواز عدم اختلاف العلة فيهما ، أو كون الحكم في أحدهما أو في البر والشعير غير معلل ; فينتفي التضاد ; فينتفي النسخ .
تنبيه : ذكر nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي نسخ حكم القياس ، أي : كونه منسوخا . وقال : منع منه الحنابلة مطلقا ، nindex.php?page=showalam&ids=14959والقاضي عبد الجبار في قول ، وأجازه أبو الحسين البصري في القياس الموجود في زمن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، دون ما وجد بعده . ثم اختار nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي نحو ما ذكر في " المختصر " ، وحكايته منع الحنابلة من نسخ حكم القياس مطلقا ، يرده ما ذكرناه من مذهبنا ; فلعله رأى قولا لبعض أصحابنا شاذا ، أو أنه لم يحقق النقل .
وحكى في النسخ بالقياس أقوالا ، ثالثها : جوازه بالجلي دون الخفي ، وهو اختيار nindex.php?page=showalam&ids=13754أبي القاسم الأنماطي من الشافعية ، واختار هو فيه تفصيلا طويلا . والله تعالى أعلم بالصواب .
[ ص: 335 ] قوله : " وهو باطل " ، أي : هذا القول منقوض بأشياء :
أحدها : دليل العقل ، يجوز التخصيص به ، دون النسخ .
الثاني : الإجماع ، يجوز التخصيص به ، دون النسخ .
الثالث : خبر الواحد ، يجوز التخصيص به ، دون النسخ .
قلت : وهذا ليس على إطلاقه ، إذ قد سبق الكلام في أن خبر الواحد ينسخ مثله ، وهل ينسخ أقوى منه ، كالكتاب والسنة المتواترة ؟ فيه خلاف ، وإنما المراد أن خبر الواحد لا ينسخ القاطع ، على ما سبق أنه المشهور ، ووجهنا خلافه .
وقوله : " يخص ولا ينسخ " ، يعني : هذه الأشياء الثلاثة تكون مخصصة ، لا ناسخة .
وتقريره : أن النسخ إبطال للحكم ; لأنه رفع له ، والتخصيص تقرير وبيان له ; لأنه عبارة عن بيان المراد من اللفظ ، فإذا بان المراد منه ، استقر الحكم عليه ، ورفع الحكم وتقريره متناقضان ; فيمتنع استواؤهما ، حتى يقال : إن ما جاز التخصيص به ، جاز النسخ به ; لأن ذلك يصير كقولنا : ما جاز أن يبين الحكم ويقرره ، جاز أن يرفعه ، ويبطله ، وهو باطل ; لأنه ترتيب لحكمين متناقضين على علة واحدة ، والله تعالى أعلم بالصواب .
[ ص: 336 ] قوله : " ويجوز النسخ بتنبيه اللفظ كمنطوقه ; لأنه دليل ، خلافا لبعض الشافعية " .
معنى هذا الكلام : أن تنبيه اللفظ - وهو المفهوم عند إطلاقه ، من غير منطوقه - يجوز أن يكون ناسخا ، كما أن المنطوق - وهو اللفظ نفسه - يجوز أن يكون ناسخا ، والجامع بينهما : أن كلا منهما دليل ، لما سيأتي إن شاء الله عز وجل عند ذكر فحوى الخطاب .
والشيخ أبو محمد حكى الخلاف عن بعض الشافعية تبعا ، nindex.php?page=showalam&ids=14552والآمدي حكى جواز النسخ بفحوى الخطاب ، ونسخ حكمه اتفاقا .
والمراد بالفحوى : ما ذكرناه من تنبيه اللفظ ; لأن المراد بهما مفهوم الموافقة ، فإن صح الخلاف عن بعض الشافعية فيه ; فهو مبني على أنه قياس جلي أو لا ، أو على أن دلالته لفظية أو عقلية التزامية .
فإن قلنا : هي لفظية ، جاز نسخها ، والنسخ بها كالمنطوق ، وهو لفظها الذي نبه عليها .
وإن قلنا : هي عقلية ، كانت قياسا جليا ، والقياس لا ينسخ ولا ينسخ به ; لأنه إن عارض نصا ، أو إجماعا ، لم يعتبر معهما ، وإن عارض قياسا ، فإن كان أحدهما راجحا ، تعين العمل به ، وإن استويا ، وجب الترجيح ، ولا نسخ على كل حال .
والجواب : لا نسلم أن القياس لا ينسخ ولا ينسخ به ; لأنه دليل يثبت حكما طارئا مناقضا لحكم قبله ; فجاز النسخ به ، ونسخه كسائر ما يجوز فيه النسخ .
قلت : وهذا يظهر فيما إذا كانت علة القياسين ، أو علة المتأخر عنهما [ ص: 337 ] منصوصة ، أما إن كانتا مستنبطتين ، أو علة المتأخر مستنبطة ; فحكمها الترجيح كما سبق ، ويضعف النسخ ، وسيأتي بيان أن مفهوم الموافقة قياس أم لا ، إن شاء الله تعالى .
ومثال المسألة : أن قوله عز وجل : فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] ، نبه على تحريم ضرب الوالدين بطريق الأولى ; فلو فرض أن ضربهما كان مباحا قبل هذا التنبيه ، كان هو ناسخا لإباحة الضرب ، ولو فرض أن إباحة ضربهما شرعت بعد التنبيه المذكور ، كانت ناسخة له ; فهو - أعني التنبيه - ناسخ في الصورة الأولى ، منسوخ في الصورة الثانية ، والله تعالى أعلم بالصواب .
معنى هذا الكلام : أن المنطوق - وهو مدلول اللفظ بالمطابقة أو التضمن - إذا نسخ ; بطل حكم ما تفرع عليه من مفهومه ، ومعلوله ، ودليل خطابه ; لأنها توابع له ، وإذا بطل المتبوع ، بطل التابع ، وإذا انتفى الأصل ، انتفى فرعه .
وخالف بعض الحنفية ; فقالوا : لا يبطل شيء من ذلك ، بل يختص النسخ بالمنطوق وحده ، وما خرج عن محل النطق ; فهو حكم مستقل ; فلا يلزم من نسخه نسخه ، كما لو ثبت بدليل غيره . والصحيح الأول لما ذكرناه ، والفرق بينه وبين ما ذكروه : أن ما ثبت بدليل غير المنطوق المنسوخ ، ليس فرعا عليه وتبعا له ; فلذلك [ ص: 338 ] استقل ، بخلاف فروع المنطوق ; فإنها تزول بزواله ، لاستحالة بقاء فرع بلا أصل .
ومثال المسألة : لو نسخ تحريم التأفيف - الذي هو المنطوق - لبطل تحريم الضرب - الذي هو المفهوم من هذا اللفظ - تبعا لأصله .
ولو نسخ النهي عن قضاء القاضي وهو غضبان ; لبطل تحريم الحكم عليه جائعا أو عطشان ، أو غير ذلك من الأحوال المزعجة ، وجاز له أن يحكم فيها .
ولو نسخ قوله : " nindex.php?page=hadith&LINKID=1022187في سائمة الغنم الزكاة " ; لبطل مفهوم دليل خطابه ; وهو أن غير السائمة لا زكاة فيها . كل ذلك لما ذكرناه من أنها فروع تبعت أصلها في السقوط ، فإن أريد إثباتها ، احتاجت إلى دليل آخر مثبت ، وعلى قول الحنفية هي ثابتة بعد زوال أصلها ; فلا تحتاج إلى دليل مثبت . ولذلك قالوا : إن الحكم القياسي يبقى بعد نسخ حكم الأصل ، والأكثرون على خلافهم .
ومثاله : لو نسخ تحريم التفاضل في البر والشعير مثلا ، لبقي الحكم ثابتا في الأرز والذرة عندهم ، وانتفى تبعا لأصله عند غيرهم .
ومأخذ الخلاف أن الحكم هل يفتقر في دوامه إلى دوام علته أم لا ؟ إن قيل : يفتقر إلى دوام علته ، تبع حكم الفرع حكم أصله في النسخ ، وإلا ; فلا . وهذا ينبني على أصل آخر ، وهو أن الباقي هل يفتقر في بقائه إلى المؤثر أم لا ؟
فرع : اتفقوا على جواز نسخ اللفظ ومفهومه معا ، ومنع الأكثرون نسخ حكم [ ص: 339 ] المنطوق دون فحواه ، كنسخ تحريم التأفيف دون الضرب ، نحو : قل له : أف ولا تضربه . والأشبه جوازه كما ذكر في " المختصر " .
وتردد القاضي عبد الجبار في عكس ذلك ، وهو نسخ الفحوى دون منطوقه ، نحو : اضربه ، ولا تقل له : أف ; فمنعه مرة لتناقضه ، إذ الغرض من منع التأفيف الإكرام ، وإباحة الضرب تنافيه ، وأجازه مرة ، وجعله من باب التخصيص ; لأنه نهى عن الأمرين ، ثم خص أحدهما بالجواز .
قلت : يحتمل أن يتوسط بين القولين ; فيقال : إن كان علة المنطوق مما لا تحتمل التغير ; كإكرام الوالد بالنهي عن تأفيفه ، امتنع نسخ الفحوى دونه ، لتناقض المقصود كما قلنا ، وإن احتملت التغير ; جاز ; لاحتمال الانتقال من علة إلى أخرى ، وذلك كما لو قال لغلامه : لا تعط زيدا درهما ، يقصد بذلك حرمانه ، لغضبه عليه ; ففحواه أن لا يعطيه أكثر من درهم بطريق الأولى ، فإذا نسخ ذلك بأن قال له : أعطه أكثر من درهم ، ولا تعطه درهما ، جاز ، لاحتمال أنه انتقل عن علة حرمان زيد ، إلى علة إعطائه ، ومواساته ، والتوقير له ، لزوال غضبه عليه ، وبراءة ساحته عنده مما رمي به . وبهذا يتجه الجمع بين قولي عبد الجبار - أعني : مجملهما على حالين . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .