[ ص: 359 ] ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادته ، خلافا للمعتزلة .
لنا : إجماع أهل اللغة على عدم اشتراط الإرادة .
قالوا : الصيغة مستعملة فيما سبق من المعاني ; فلا تتعين للأمر إلا بالإرادة ، إذ ليست أمرا لذاتها ، ولا لتجردها عن القرائن ، إذ تبطل بالساهي والنائم .
قلنا : استعمالها في غير الأمر مجاز ; فهي بإطلاقها له ، ولا يرد لفظ النائم والناسي ، إذ لا استعلاء فيه ، ثم الأمر والإرادة يتفاكان كمن يأمر ولا يريد ، أو يريد ولا يأمر ; فلا يتلازمان ، وإلا اجتمع النقيضان .
قوله : " ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادته ، خلافا للمعتزلة " .
اعلم أن بعض المعتزلة قال : الأمر : هو صيغة افعل بشرط إرادة إحداث الصيغة ، وإرادة الدلالة بها على الأمر ، وإرادة الآمر الامتثال من المأمور ، بفعل المأمور به ، وعندنا هو صيغة : افعل على جهة الاستعلاء ، ولا يشترط في كونه أمرا شيء من الإرادات المذكورة .
قوله : " لنا " : أي : على أن الأمر هو الصيغة ، من غير اشتراط الإرادة ، هو " أن إجماع أهل اللغة على عدم اشتراط الإرادة للآمر " ، وذلك لأنهم رتبوا ذم المأمور أو مدحه ، وإثباته وعقوبته ، على مخالفة مجرد الصيغة أو موافقتها ولم يسألوا ، ولم يستفصلوا هل أراد الآمر الأمر أو امتثال المأمور أو [ ص: 360 ] لا ؟ ، ولو كان ذلك شرطا عندهم ، لما أهملوا السؤال عنه ، ولا رتبوا أحكام الأمر عليه ، بدون تحققه ، فلما أهملوا السؤال عنه ، دل على أنه ليس شرطا عندهم ، وإذا لم يكن شرطا عندهم ، لم يكن شرطا مطلقا ; لأنهم هم أهل اللسان ، وعنهم يؤخذ أقسام الكلام .
فإن قيل : لعل الإرادة ظهرت لهم بقرائن الأحوال ; فاستغنوا بها عن السؤال .
قلنا : الأصل عدم القرائن ، وإن سلم وجودها ، لكنه ليس بلازم في كل صورة من صور الأمر ; فمع كثرة وقوعه ; يستحيل عادة أن لا يتجرد عن القرائن في بعض الصور ; فيحتاجون إلى السؤال عن شرطه المذكور ; فينقل عنهم ، ويعلم اعتباره عندهم ، فلما لم يوجد شيء من ذلك ، دل على أن لا أصل لهذا الشرط .
قوله : " قالوا : الصيغة مستعملة فيما سبق من المعاني " ، إلى آخره . هذا دليل من اشترط للأمر الإرادة .
وتقريره : أن صيغة " افعل " لو استغنت - في كونها أمرا - عن الإرادة ; لكانت ; إما أن تكون أمرا لذاتها ، أو لتجردها عن القرائن ، وكلاهما باطل ; فالقول باستغنائها عن الإرادة باطل .
" وإنما قلنا : إنها ليست أمرا لذاتها " ، أي : لكونها صيغة افعل ; لأنها لو كانت أمرا لذاتها ، لما صح ورودها للتهديد ونحوه ، مما ليس المراد بلفظها [ ص: 361 ] فيه الأمر ، ولكن قد صح ورودها للتهديد ، نحو : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ; فلا تكون أمرا لذاتها .
وإنما قلنا : إنها ليست أمرا ، لتجردها عن القرائن ; لأن ذلك يبطل بالساهي والنائم ، فإن صيغة افعل تصدر منهما مجردة عن القرائن ، وليست أمرا .
وإذا ثبت أنها ليست أمرا لذاتها ، ولا لتجردها عن القرائن ، وقد وردت مستعملة في المعاني السابق ذكرها ، على كثرتها ; فحملها على الأمر دون بقية تلك المعاني ، ترجيح من غير مرجح ; فوجب أن تشترط الإرادة في كونها أمرا ، لتتعين له بها .
قوله : " قلنا : استعمالها في غير الأمر مجاز ; فهي بإطلاقها له " ، هذا جواب دليلهم ، وهو يمنع الحصر في قولهم : إما أن تكون أمرا لذاتها ، أو لتجردها عن القرائن .
وبيانه أن ثم قسما آخر ، وهو أنها حقيقة في الأمر بوضع الواضع ، أو عرف الاستعمال ، بدليل ما سبق من مبادرة فهم الطلب الجازم منها ، وإذا كانت حقيقة فيه ; فهي بإطلاقها له . فلا يحتاج إلى التعيين بالإرادة ، وهي مجاز في غير الأمر ، لئلا يلزم الاشتراك ، وهو خلاف الأصل ، وإنما كان يحتاج إلى تعيينها للأمر بالإرادة ، لو كانت مشتركة في المعاني التي وردت فيها ، وليس كذلك .
وأما لفظ النائم والناسي بصيغة افعل ، مع أنه ليس أمرا ; فلا يرد [ ص: 362 ] علينا ; لأن انتفاء كونه أمرا ; لم يكن لعدم الإرادة ، بل لعدم الاستعلاء فيه ، إذ الاستعلاء لا يتصور من الساهي والنائم ; لأن الاستعلاء كيفية تصدر عن تصور الآمر ، واستشعاره أنه أعلى من المأمور ، وذلك يستلزم صحة التصور والقصد ، وهما ممتنعان في النائم والساهي ، ولذلك قلنا : لا يتوجه الخطاب إليهما حال النوم والسهو .
وقد يرد على هذا : أن من لا يشترط الاستعلاء أيضا ، يصحح الأمر منهما ; فدل على أن عدم الاستعلاء منهما ليس هو المانع ، لكن يجاب عن هذا : بأنا لا نسلم أن عدم الاستعلاء ليس هو المانع ، لكن عدم الإرادة لا يتعين مانعا ، إذ جاز أن يكون المانع غيره .
قوله : " ثم الأمر والإرادة يتفاكان " ، إلى آخره . هذا دليل آخر على بطلان اشتراط الإرادة للآمر .
وتقريره : أن الإرادة لو كانت شرطا للأمر ، لما انفكت عنه ، لاستحالة انفكاك المشروط عن شرطه ، لكنهما يتفاكان جميعا ، أي : ينفك كل واحد منهما عن الآخر ; فلا تكون الإرادة شرطا للأمر .
وبيان انفكاك كل واحد منهما عن الآخر هو أنه يصح أن يأمر المتكلم [ ص: 363 ] بما لا يريد ، وأن يريد ما لا يأمر به .
أما الأمر بما لا يراد ; فكأمر الله عز وجل الكفار بالإيمان ، مع عدم إرادته منهم ، إذ لو أراده منهم ، لكان ، وذلك لأن معنى كون إيمانهم مرادا له عز وجل : هو تعلق إرادته به ، ومعنى تعلق إرادته به هو تخصيصها بحدوثه منهم بحال دون حال ، ووقت دون وقت ، إذ شأن الإرادة التخصيص ، وشأن القدرة التأثير ، فلما لم يوجد الإيمان منهم ، دل على أنه لم يكن مرادا له عز وجل ، مع أنه أمر به بالإجماع ; فثبت أن الأمر يصح وجوده بدون الإرادة ، وكذلك : لو عوتب شخص على معاقبة عبده ; فادعى مخالفته له ، وأراد إقامة عذره عند معاتبه ; فقال لعبده : اذهب ; فافعل كذا ; فهذا أمر له بالفعل ، مع أن السيد لا يريد منه الامتثال قطعا ، لئلا يفضي إلى تكذيبه عند معاتبه ، ويتعذر عليه إقامة عذره عنده .
وكذلك نوح عليه السلام ، لما قيل له : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ هود : 36 ] ، وسائر الأنبياء ، لما أخبروا أن كفار قومهم لا يؤمنون ، كانوا بعد ذلك يدعونهم إلى الإيمان ، إقامة لرسم الدعوة ، ولا يريدونه منهم لوجهين :
أحدهما : إفضاء إيمانهم إلى تكذيب خبر الله عز وجل .
[ ص: 364 ] الثاني : استحالة إيمانهم ، لتعلق علم الله تعالى بعدمه ، والمحال غير مراد .
وأما إرادة ما لا يؤمر به ; فهو كثير الوقوع ، إذ الإنسان كثيرا ما يريد شيئا ، ولا يأمر به ، خوفا ، أو حياء ، أو تدينا ، كما لو حرم السلطان عصر العنب خمرا ، فإن كثيرا من الناس يريد عصره ، ولا يأمر به عبده ، ولا ولده ، ونحوهما ممن له عليه ولاية ، خوفا أن يظهر عليه ; فيعاقب ، والصائم قد يريد الأكل والشرب ، ولا يأمر عبده بإحضاره ، ليتناول منه حياء من الله عز وجل ومحافظة على الدين .
وإذا ثبت أن الأمر والإرادة يتفاكان ، " فلا يتلازمان " .
أي : لا يلزم أحدهما الآخر من الطرفين ، ولا من أحدهما ، " وإلا اجتمع النقيضان " .
أي : لو تلازما مع صحة تفاكهما ، لزم اجتماع النقيضين ، وهو تفاكهما ، وعدم تفاكهما ، أو تلازمهما وعدم تلازمهما ، وهو محال .