[ ص: 365 ] ثم هنا مسائل : الأولى : الأمر المجرد عن قرينة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء ، وبعض المتكلمين ; وعند بعض المعتزلة الندب حملا له على مطلق الرجحان ، ونفيا للعقاب بالاستصحاب ، وقيل : الإباحة لتيقنها .
وقيل : الوقف لاحتماله كل ما استعمل فيه ولا مرجح .
لنا : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ النور : 63 ] ، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ المرسلات : 48 ] ، ذمهم وذم إبليس على مخالفة الأمر المجرد ، ودعوى قرينة الوجوب ، واقتضاء تلك اللغة له دون هذه غير مسموعة ; وإن السيد لا يلام على عقاب عبده على مخالفة مجرد أمره باتفاق العقلاء .
اعلم أن الأمر إما أن يكون مقترنا أو مجردا ، فإن كان مقترنا بقرينة ، تدل على أن المراد به الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ، حمل على ما دلت عليه القرينة ، وإن كان مجردا عن قرينة ; فهو يقتضي الوجوب عند أئمة الفقهاء الأربعة ، وبعض المتكلمين ، كأبي الحسين البصري والجبائي ، وعند بعض المعتزلة يقتضي الندب ، وهو قول أبي هاشم ، وجماعة من المتكلمين " حملا له " ، أي : للأمر " على مطلق الرجحان ، ونفيا للعقاب بالاستصحاب " ، هذا توجيه قول هؤلاء .
[ ص: 366 ] وتقريره : أن الأمر ورد تارة للوجوب كما في المكتوبة ، وتارة للندب كما في صلاة الضحى ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ; فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب ، وهو مطلق رجحان الفعل .
وأما العقاب على الترك ; فينتفي بالاستصحاب ، أي : استصحاب حال عدمه ، وهو كون الأصل براءة الذمة منه .
هكذا وقع في " المختصر " ، والأولى أن من جعل الأمر للندب ، يجعل نفي العقاب على الترك ، مستفادا من لفظ الندب ; لأن حقيقته مركبة من رجحان الفعل ، وجواز الترك . وإذا جعل القدر المشترك بين الوجوب والندب ، كان نفي العقاب مستفادا من استصحاب الحال ، كما ذكرنا . وهذان مذهبان ، وتوجيههما ما ذكر ، إلا من جهة هذا الفرق .
قوله : " وقيل : الإباحة " ، أي : وقيل : مقتضى الأمر المجرد الإباحة " لتيقنها " ، أي : أن الأمر قد استعمل في الوجوب ، والندب ، والإباحة ، وهي المتيقنة ; فليكن الأمر حقيقة فيها ، ويقف حمله على خصوصية الندب ، أو الوجوب على الدليل ; لأنهما مشكوك فيهما ; فلا يحمل عليهما بالشك ، ولأن جواز الإقدام هو القدر المشترك بين الثلاثة ; فليكن الأمر حقيقة فيه ، وهو الإباحة ، دفعا للمجاز والاشتراك .
- قوله : " وقيل : الوقف " ، أي : وقيل : الأمر يقتضي الوقف ، أو حكمه الوقف ، " لاحتماله كل ما استعمل فيه من إباحة ، وندب ، ووجوب ، ولا مرجح " لبعضها على بعض ; فيجب الوقف على المرجح ، وهو مذهب الأشعري ، [ ص: 367 ] واختيار nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي هاهنا ، وفي كثير من المسائل ، وعمدته في ذلك بيان شبه المخالفين ، واتجاه القدح فيها ; فيجب التوقف على حجة القادح فيها .
قلت : وهذه طريقة جيدة في المطالبة القطعية ، أما الظنية ; فيكفي فيها ظهور أحد الطرفين ، وإن توجه إليه قادح ما .
هذه أربعة مذاهب في مقتضى الأمر : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والوقف . وقد ذكر توجيه الثلاثة الأخيرة ، والكلام الآن في توجيه الأول وهو الوجوب .
الوجه الثاني : قوله عز وجل عن الكفار : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين [ المرسلات : 48 ، 49 ] ، ولما أمر إبليس بالسجود ; فأبى ، قال له : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك إلى قوله : [ ص: 368 ] اخرج منها مذءوما مدحورا [ الأعراف : 12 - 18 ] ; فذم الكفار على ترك السجود عبادة ، وذم إبليس على ترك السجود لآدم تحية ، وذلك ذم على مخالفة الأمر المجرد ; فدل على أنه يقتضي الوجوب ، إذ قد سبق أن الواجب ما ذم تاركه شرعا .
قوله : " ودعوى قرينة الوجوب ، واقتضاء تلك اللغة له ، دون هذه ، غير مسموعة " . هذا جواب عن سؤال ، يورده الخصم على الاستدلال ، بهذه الآيات ونحوها ، وتقريره من وجهين :
أحدهما : أن الذم في الآيات المذكورة ليس على مخالفة الأمر المجرد ، بل اقترن بالأمر فيها قرينة أفادت الوجوب ، ولولا تلك القرينة ، لم يقتض الوجوب ، ولا الوعيد والذم على الترك .
فتقدير الآية الأولى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، المفيد للوجوب ، بقرينة أو غيرها .
وذلك أمر إبليس بالسجود ، اقترن به قرينة أفادت الوجوب ; فكان ذمه على ترك الواجب ، لا على مطلق مخالفة الأمر .
الوجه الثاني : مختص بقصة إبليس ، وهو أن الأمر في اللغة التي خاطب الله عز وجل بها الملائكة بالسجود كان يقتضي الوجوب ; فلذلك ذم [ ص: 369 ] على مخالفة الأمر ، بخلاف لغتنا هذه ، فإن الأمر لا يقتضي الوجوب .
والجواب : أن هذه دعوى غير مسموعة ; لأنها مجردة عن حجة :
أما الأول : وهو اقتران الأمر بما يفيد الوجوب ; فلأن الظاهر خلافه ، إذ الأصل عدم القرينة ، ومجرد احتمالها لا يكفي ، ولا يترك له ظاهر الخطاب .
وأما اقتضاء الأمر في تلك اللغة الوجوب ، دون هذه ; فخلاف الظاهر أيضا ; لأن الله سبحانه وتعالى ، حكى لنا الحكاية بلغة ، والأصل مطابقة الحكاية للمحكي ، وموافقته ، وهو يقتضي أنه عز وجل أمر الملائكة بالسجود ، باللغة العربية التي ورد بها القرآن ، وأكثر ما يقال : إنه أمرهم بغير العربية ، ثم حكى القصة بالعربية ، لكن الله عز وجل صادق في إخباره ، والصدق يقتضي مطابقة المخبر به للمخبر عنه ، وأقل ذلك أن تكون مطابقة معنوية ، وهو إيراد المعنى من غير زيادة ولا نقص ، والله عز وجل ليس يعزب عليه ذلك ; فوجب حمل الأمر على ذلك ، وبالجملة : فهذه الدعوى إذا قوبلت بظاهر الحال ، كانت هباء منثورا .
الوجه الثالث : أن العبد إذا خالف مجرد أمر سيده ; فعاقبه ، لم يلم على عقابه ، باتفاق العقلاء ، ولولا إفادة الأمر المجرد الوجوب ، لاتجه لوم السيد في هذه الصورة ، لكنه لا يتجه ; فدل على إفادة أن الأمر لمجرد الوجوب ، وهو المطلوب .
وإذ قد تبين بالاستعمال ، ومبادرة الذهن ، أن الأمر المجرد يقتضي الوجوب ، ثبت أنه حقيقة فيه ; فيضعف قول من جعله للندب ، أو الإباحة ; حملا له على القدر المشترك ، دفعا للاشتراك والمجاز ، وقول من توقف لظهور أحد الطرفين .