[ ص: 395 ] السادسة : الواجب الموقت لا يسقط بفوات الوقت ، ولا يفتقر قضاؤه إلى أمر جديد ، خلافا لأبي الخطاب والأكثرين .
لنا : استصحاب حال شغل الذمة إلا بامتثال أو إبراء .
قالوا : الموقت غير المطلق ; فالأمر بأحدهما ليس أمرا بالآخر .
قلنا : بل مقتضى الموقت الإتيان بالفعل في الوقت المعين ، فإذا فات الوقت ، بقي وجوب الإتيان بالفعل .
المسألة : " السادسة : الواجب الموقت لا يسقط بفوات الوقت ، ولا يفتقر قضاؤه إلى أمر جديد " ، وهو قول أبي بكر الرازي ، وجماعة من الفقهاء ، " خلافا لأبي الخطاب ، والأكثرين " ، منهم مالك ، والأشعرية ، والمعتزلة ، ويجب القضاء بقياس الشرع ، عند nindex.php?page=showalam&ids=14283أبي زيد الدبوسي .
وصورة المسألة : ما إذا أمر بصلاة الفجر في وقتها المعين لها ، فلم يصلها حتى طلعت الشمس ; فهل تسقط بذلك صلاة الفجر ، ويتوقف وجوب قضائها على أمر جديد ؟
أو لا تسقط ، ويجب قضاؤها بالأمر الأول ، الذي وجبت به صلاة الفجر في وقتها ؟
أو يجب بقياس الشرع ، كما قال أبو زيد ؟
يريد به والله تعالى أعلم أن الشرع لما عهد منه إيثار استدراك عموم المصالح الفائتة ، علمنا من عادته بذلك ، أنه يؤثر استدراك الواجب الفائت في الزمن الأول ، بقضائه في الزمن الثاني ; فكان هذا ضربا من القياس .
قوله : " لنا : استصحاب حال شغل الذمة ، إلا بامتثال ، أو إبراء " . هذا [ ص: 396 ] دليل القول بأن الواجب لا يسقط بتركه في وقته ، وأن قضاءه بعده بالأمر الأول .
وتقريره : أن الذمة إذا اشتغلت بواجب للشرع ، أو لآدمي ، لم تبرأ منه إلا بالامتثال ، وهو الأداء ، أو إبراء من المستحق للواجب ، بأن يقول الشرع : نسخت عنك هذه العبادة ، أو الآدمي : أبرأتك من هذا الدين ، وإذا كانت الذمة مشغولة بالواجب ، ما لم يوجد أداء له ، أو إبراء من مستحقه ; فقد أجمعنا على أن الذمة مشغولة بالواجب المؤقت في وقته ، والأصل بقاء ما كان فيه على ما كان .
والتقدير : أن المكلف لم يوجد منه أداء ، ولا من الشرع إبراء ; فوجب القول ببقاء الواجب في الذمة ; فتكون براءتها منه موقوفة على الأداء ، أو الإبراء ، لكن الإبراء صار بعد انقضاء زمن الوحي ممتنعا ; فتعين الأداء لبراءة الذمة ، لكن وقت الأداء اصطلاحا قد فات بالتأخير ; فتعين القضاء فيما بعده ، لإبراء الذمة ، وذلك يقتضي أن يكون بالأمر الأول ; لأنه بدل عنه .
قوله : " قالوا : المؤقت غير المطلق ; فالأمر بأحدهما ليس أمرا بالآخر " .
هذا حجة الخصم .
وتقريرها : أن قوله مثلا : صل في هذا الوقت ، أمر مقيد بزمان . وقوله : اقض هذا الفائت ، أمر مطلق ، لا تقييد فيه ، والمقيد غير المطلق ; فالأمر بأحدهما ، أي : بالمقيد ، لا يكون أمرا بالآخر ، وأيضا فإن تخصيص العبادة بالوقت ، كتخصيص الفعل بمكان ، أو شخص ، أو جهة ; فتخصيص العبادة بوقت الزوال ، وشهر رمضان ، كتخصيص الحج بمكة ، والزكاة بالمساكين ، [ ص: 397 ] والقتل بالكفار ، والصلاة بالقبلة . ثم إن ما علق بمكان ، أو شخص ، أو جهة ، لا يجوز تعلقه بغيره ; فلا يجوز الحج في غير مكة ، ولا صرف الزكاة إلى غير أصنافها المذكورة ، ولا قتل غير من خص القتل به ، من الكفار ، والعصاة ، ولا الصلاة إلى غير جهة القبلة حال الاختيار ; فكذلك ما علق بزمن معين ، لا يعلق بغيره ، إلا بأمر جديد .
قوله : " قلنا : " إلى آخره .
هذا جواب دليل الخصم المذكور .
وتقريره : لا نسلم أن المؤقت غير المطلق ، بل المطلق جزء المؤقت ، على ما قررتموه ، وذلك لأن الأمر بالواجب المؤقت ، اقتضى الإتيان بشيئين :
أحدهما : الواجب ، وهو صلاة الفجر مثلا .
والثاني : إيقاع ذلك الواجب في ذلك الوقت المعين ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس في صلاة الفجر ، فإذا فات الوقت المعين ، بالتأخير وهو أحد الأمرين اللذين اقتضاهما الأمر بقي وجوب الإتيان بالفعل ، وهو الأمر الآخر ; فيأتي به في زمن القضاء ، لاستحالة إيقاعه في غير زمان ، حتى لو تصور إيقاعه لا في زمان ، لما أوجبنا إلا حقيقة الفعل مجردة ; لأنها الباقي في الذمة من مقتضى الأمر ، وصار هذا تخصيصا ضروريا ; فهو كالتخصيص الشرعي ، فإن العام إذا خص منه صورة بدليل ، وجب امتثاله فيما عدا محل التخصيص ، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
[ ص: 398 ] وكما لو أمر أن يتصدق بدرهمين ; فتلف أحدهما ، أو يعتق عبدين ; فمات أحدهما ; لزمه أن يتصدق ، ويعتق الباقي ، بموجب الأمر الأول .
وأما قياسهم تعلق الفعل بالزمان ، على تعلقه بالمكان ، والشخص ، والجهة ; فغير مستقيم ، وذلك لأن الزمان حقيقة سيالة ، غير قارة ; فالمتأخر منه تابع للمتقدم ; فما ثبت فيه ، ثبت فيما بعده بطريق التبع له ; بخلاف الأمكنة ، والأشخاص ، والجهات ; فإنها حقائق قارة ، ليس بعضها تابعا لبعض ، حتى يتعلق ببعضها ما تعلق بغيره .
قلت : فتلخيص مأخذ المسألة أننا نحن نقول : الواجب الواقع في زمن القضاء ، هو جزء الواجب في زمن الأداء ، والخصم يقول : هو غيره . وقد بان تقرير القولين ، والله سبحانه وتعالى أعلم .