[ ص: 403 ] الثامنة : الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم إلا لدليل ، أو يكون الخطاب بلفظ لا يعم ، نحو : ولتكن منكم أمة [ آل عمران : 104 ] ; فيكون فرض كفاية ، وهو ما مقصود الشرع فعله ، لتضمنه مصلحة ، لا تعبد أعيان المكلفين به ، كصلاة الجنازة ، والجهاد ، لا الجمعة والحج ، وهو واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ، واستبعاده لا يمنع وقوعه ، وتكليف واحد غير معين لا يعقل بخلاف التكليف به .
قلنا : بل محمول على المنتدب المسقط له جمعا بين الأدلة .
المسألة الثامنة : الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم ، إلى آخره .
اعلم أن الأمر المتوجه إلى جماعة ; إما أن يكون بلفظ يقتضي تعميمهم به ، أو لا يكون ، فإن كان بلفظ يقتضي تعميمهم ، نحو قوله عز وجل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 110 ] ; فإما أن لا يعترض عليه دليل يدل على اختصاص الخطاب ببعضهم ، أو يعترض دليل على ذلك ، فإن لم يعترض على العموم دليل ، اقتضى وجوبه على كل واحد منهم ; لأن الواو في افعلوا كالواو في الزيدون وكلاهما للجمع ، ثم الواو في الزيدون تدل على أشخاص متعددة ، نحو : زيد وزيد وزيد ; فكذلك الواو في افعلوا تدل على عدة مخاطبين ; فهي في قوة قوله : افعل أنت وأنت وأنت ، كذلك ، حتى يستغرق المخاطبين .
[ ص: 404 ] وإن اعترض على العموم دليل يقتضي اختصاصه ببعضهم ; فالبعض إما معين ، أو غير معين .
وإن كان ذلك البعض غير معين ، أو كان الخطاب بلفظ لا يعم الجميع ، وهو القسم الثاني من أصل التقسيم ، نحو قوله عز وجل : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف [ آل عمران : 104 ] ; فهذا هو فرض الكفاية .
قوله : " وهو " ، أي : فرض الكفاية ، " ما مقصود الشرع فعله ، لتضمنه مصلحة ، لا تعبد أعيان المكلفين به ، كصلاة الجنازة ، والجهاد ، لا الجمعة ، والحج " ، فإن صلاة الجنازة والجهاد مقصود الشرع فعلهما ، لما تضمناه من مصلحة الشفاعة للميت ، وحماية بلاد الإسلام من استباحة العدو لها ، ولم يرد بها تعبد أعيان المكلفين ، بخلاف الجمعة والحج ، فإن المقصود بهما تعبد أعيان المكلفين ، ممن وجدت فيه شروط وجوبهما .
واعلم أن التعبد والمصلحة مشتركان بين فرض الكفاية والعين ، أعني أن كل واحد منهما عبادة يتضمن مصلحة ; فالجهاد عبادة ، بمعنى أن الله عز وجل أمر به ، وطاعته فيه واجبة ، والانقياد إلى امتثال أمره فيه لازم ، ومصلحته ظاهرة ، والمصلحة في الحج ونحوه من العبادات ، هو طاعة الله بفعلها ، تعظيما لأمره ، ولما يترتب عليها للمكلفين من الفوائد الأخروية ، والتعبد فيه ظاهر ، وإذا كان التعبد والمصلحة موجودين في فرض الكفاية والعين ; فالفرق [ ص: 405 ] بينهما : أن المقصود في فرض الكفاية تحصيل المصلحة التي تضمنها ، وفي فرض العين تعبد الأعيان بفعله .
ويمكن تقرير الفرق بينهما بوجه آخر ، وهو أن الحقوق ; إما خالص لله عز وجل ، كالتوحيد ، والصلاة ، والصيام ، والحج . أو خالص للآدمي ، كالتملكات بالعقود ، والتشفي بالقصاص ، ونحو ذلك . أو مشترك بينهما ، بمعنى : أن لله عز وجل فيه طاعة خالصة ، وللعبد فيه مصلحة عامة .
فالأول - وهو حق الله سبحانه وتعالى - هو فرض العين ، والثالث - وهو المشترك - هو فرض الكفاية ، كتجهيز الموتى ، والصلاة عليهم ، ودفنهم ، أمر الله تعالى به ، ولهم فيه مصلحة عامة . وكذلك الجهاد ، وولاية القضاء ، والإعانة عليه ، وغير ذلك من المصالح العامة ، المأمور بها شرعا .
ويشكل على هذا التقرير صلاة العيد ، ونحوها ، عند من يراها فرض كفاية ، فإن التعبد بها أظهر من مصلحة المكلفين العامة . وأشار القرافي إلى الفرق بينهما ، بأن فرض العين ما تكررت مصلحته بتكرره ، كالصلاة الخمس ، وفرض الكفاية : ما لا يتكرر مصلحته بتكرره ، كإنقاذ الغريق ، ونحوه .
والفرق العام بين فرض الكفاية والعين : هو أن فرض الكفاية ما وجب على الجميع ، وسقط بفعل البعض ، وفرض العين ما وجب على الجميع ، ولم يسقط إلا بفعل كل واحد ممن وجب عليه ، وهو فرق حكمي .
- قوله : " وهو " يعني فرض الكفاية " واجب على الجميع " ، أي : على جميع المخاطبين به ، " ويسقط بفعل البعض " ، أي : بفعل بعضهم .
هذا بيان حكم فرض الكفاية ، وذلك كالجهاد مثلا ; وجب على جميع [ ص: 406 ] المكلفين بقوله عز وجل : وجاهدوا في الله حق جهاده [ الحج : 78 ] ، ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار [ التوبة : 123 ] ، ونحو ذلك ، ثم أجمع المسلمون على سقوطه عن جميعهم ، بفعل من يقوم بطرد العدو وكف شره عن المسلمين .
وقد صرح الخرقي بهذا المعنى ، حيث قال : والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم ، سقط عن الباقين ، وإنما سمي هذا فرض كفاية ، لاكتفاء الجميع بالبعض في سقوط الفرض .
- قوله : " واستبعاده لا يمنع وقوعه " . هذا جواب سؤال مقدر من جهة المانعين لفرض الكفاية .
وتقريره : أن الوجوب على الجميع ، يقتضي وجوب الأداء على الجميع لتوجه الخطاب إليهم كما سبق . وحينئذ سقوطه بفعل البعض بعيد ، ولأن الواجب ضد الحرام ، كما سبق في تعريفه ، ثم الحرام لا يخرج الجميع عن عهدة تركه ; بترك البعض له ، كذلك الواجب لا يخرج الجميع عن عهدة فعله ; بفعل البعض له .
والجواب بما ذكر ، وهو أن سقوط الواجب عن الجميع ، بفعل البعض ليس محالا لذاته ولا لغيره ، وإذا لم يكن محالا ; فغايته أن يكون مستبعدا كما ذكرتموه ، لكن استبعاده لا يمنع وقوعه إذا قام دليله ، إذ قد وقع في الوجود كثير من المستبعدات ، والنوادر ، والخوارق للعادات .
وقد أوجب الشرع دية الخطأ على العاقلة ، مع أن العقل والشرع يستبعدان جدا أن تزر وازرة وزر أخرى ، أو يعاقب أحد بجريمة غيره من غير مشاركة منه فيها .
[ ص: 407 ] وأما عدم الاكتفاء في خروج الجميع عن عهدة ترك الحرام بفعل البعض ; فلأن الحرام لا فرض كفاية فيه ، لما ذكرناه عند حد الحرام من الفرق بينهما .
- قوله : " وتكليف واحد غير معين لا يعقل ، بخلاف التكليف به " . هذا جواب إلزام من جهة الخصم . وتقريره أن يقال : لم لم تقولوا : إن المكلف بفرض الكفاية بعض غير معين من المكلفين ، كما قلتم : إن المكلف به في الواجب المخير بعض غير معين ، كإحدى خصال الكفارة ، فإن المكلف والمكلف به من متعلقات التكليف ; فكما جاز أن يكون أحدهما بعضا غير معين ; ينبغي أن يجوز في الآخر ، ولا يرتكب ما ذكرناه من الاستبعاد في فرض الكفاية على قولكم .
والجواب بما ذكرناه من الفرق ، وهو أن تكليف واحد ، أو بعض غير معين كقوله : أوجبت على أحد هذين ، غير معقول ، بخلاف التكليف ببعض غير معين ، نحو : أوجبت أحد هذه الخصال .
ووجه تأثير هذا الفرق : أن الأول يفضي إلى تعطيل المأمور به بالكلية للتواكل ، والثاني لا يفضي إليه . وقد سبق تقرير هذا عند ذكر الواجب الموسع .
قوله : " قلنا " إلى آخره ، أي : لا نسلم أن قوله عز وجل : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة إيجاب على بعض غير معين ، بل هو إيجاب على الجميع بدليل ما قبل الآية وبعدها ، من الخطاب العام . وقوله عز وجل : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة محمول على البعض المنتدب ، لإسقاط الفرض عن الجميع ، كأنه قال : قد أوجبنا النفير للتفقه والإنذار على جميع المؤمنين ، لكن جميعهم لا يمكنهم النفير لذلك ، ولا هم مضطرون إليه ، لقيام البعض بمصلحته المطلوبة منه ; فلينتدب طائفة منهم لإسقاط الواجب عن الكل فليتفقهوا في الدين ، ويعلموا حدوده ومعالمه ، ثم ليرجعوا إلى قومهم ; فلينذروهم عذاب الله على المعصية ، ويعلموهم ما ينبغي لهم تعلمه من أمور الدين .
- قوله : " جمعا بين الأدلة " ، أي : حملنا هذه الأدلة على ما ذكرناه ، للجمع بين الأدلة ، وذلك أنا قد قررنا أن تكليف بعض غير معين لا يعقل ، ويلزم منه تفويت المأمور به أصلا ورأسا ، والآية المذكورة ظاهرة في صحة [ ص: 409 ] تكليف بعض غير معين ; فاحتجنا إلى الجمع بين الدليلين ، وذلك بحمل الآية على ما ذكرنا ; فهو أولى من تنافر الأدلة ، وتفرقها ، وتنافيها ، وتناقضها ، بل الجمع بينها واجب ما أمكن ، والله عز وجل أعلم بالصواب .
فوائد تتعلق بفرض الكفاية :
إحداهن : لا يشترط في الخروج عن عهدة فرض الكفاية تحقق وقوعه من بعض الطوائف ، بل أي طائفة غلب على ظنها أن غيرها قام به ، سقط عنها ، وإن غلب على ظن كل من الطائفتين أو الطوائف ، أن الأخرى قامت به ، سقط عن الجميع ، عملا بموجب الظن ; لأنه كما صلح مثبتا للتكاليف ، صلح مسقطا لها .
الثانية : القائم بفرض الكفاية أفضل من غير القائم به ، ضرورة أنه حصل مصلحته دون غيره ، نعم هما سيان في الخروج عن العهدة ، لكن هذا خرج عنها بفعله ، وذلك خرج عنها لانتفاء القابل لفعله ; لأن القائم بفرض الكفاية ، لما حصل مصلحته بفعله ، لم تبق مصلحة يفعلها الآخر ; فسقط عنه التكليف لذلك .
مثاله : إذا قام جماعة بطرد العدو ; فبقية الناس لا يجدون عدوا يطردونه ، وإذا قام جماعة بتجهيز الميت ; فغيرهم لا يجد ميتا يجهزه ; فالفاعل خرج عن العهدة بحصول المصلحة بفعله ، والتارك خرج عنها لانتفاء القابل لفعله .
الثالثة : اختلفوا أيهما أفضل : فاعل فرض العين ، أو فاعل فرض [ ص: 410 ] الكفاية ؟ فقيل : فاعل فرض العين ; لأن فرضه أهم ، ولذلك وجب على الأعيان ، وقيل : فاعل فرض الكفاية أفضل ; لأن نفعه أعم ، إذ هو يسقط الفرض عن نفسه وغيره ، وهذا منسوب إلى nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين .
قلت : ويمكن الجمع بين القولين ، بأن كلا منهما أفضل من وجه ، والله أعلم بالصواب .
ووجهه : أنه بالشروع تعلق به حق الغير ، وهو انعقاد سبب براءة ذمته ، من التكليف بفرض الكفاية ، وخروجه عن عهدته ; فلا يجوز له إبطال ما تعلق به حق غيره ، كما لو أقر بحق ، لم يجز له الرجوع عنه .
ووجه القول الآخر : أن ما لا يجب الشروع فيه ، لا يجب إتمامه في غير الحج ، كصوم التطوع وصلاته ، ولأنه لو تعين بالشروع ، لما جاز للقاضي أن يعزل نفسه ، لكنه جائز باتفاق .
قلت : وقد يجاب عن هذا : بأن فرض الكفاية له حظ في الوجوب بالجملة ، بل هو واجب على التحقيق كما تقرر ، بخلاف صوم النفل ; فإنه لا حظ له في الوجوب أصلا ، مع أن بعض العلماء أوجب إتمامه ; فيلتزم على قوله ; فلا يصح القياس عليه .
وأما القاضي ، فإن لم يوجد من يقوم مقامه ، لم يجز له عزل نفسه ; لأنه يضر بالناس ، وإن وجد غيره ، جاز له عزل نفسه ، لا من جهة كونه متلبسا بفرض الكفاية ، ولكن من جهة كونه وكيل الإمام ونائبه ، والوكيل له عزل نفسه ، والله تعالى أعلم بالصواب .