هذا تعريف المضاف إليه من لفظ أصول الفقه ، وهو الفقه بحسب اللغة . وقبل الشروع فيه هاهنا تنبيه كلي ، وهو أن الأصوليين والفقهاء جرت عادتهم أنهم إذا انتصبوا لبيان لفظ ، بينوه من جهة اللغة والشرع ، فقالوا مثلا : الفقه في اللغة : كذا ، وفي الاصطلاح الشرعي : كذا ، كما نحن بصدد بيانه إن شاء الله تعالى .
والصلاة في اللغة : الدعاء ، وفي الشرع الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم ، وأشباه ذلك مما يكثر ، وذلك بناء منهم على إثبات الحقائق الشرعية ، وهي من كبار المسائل .
وصورة ذلك : أن الشرع ، هل وضع لحقائقه الشرعية أسماء بإزائها وضعا استقلاليا خارجا عن وضع أهل اللغة ، أو أنه أبقى الموضوعات اللغوية على حالها ، وزاد فيها شرعا شروطا وأفعالا أخر ؟
مثاله : أنه سمى الصلاة الشرعية صلاة ، لاشتمالها على الصلاة اللغوية ، وهي الدعاء ، لكن اشترط لها في الشرع شروطها الستة ، وأركانها الثلاثة عشر ، وكذلك سمى الصوم الشرعي صوما لاشتماله على الصوم اللغوي ، وهو الإمساك ، وزاده النية ، وقدر وقته .
هذا فيه خلاف بين الأصوليين ، والمسألة مذكورة بأدلتها في فصل اللغات . [ ص: 130 ]
إذا ثبت هذا عدنا إلى لفظ المختصر .
فالفقه في الوضع : " الفهم " ، كذا قال الشيخ أبو محمد والأكثرون . يقال : فقهت الكلام ، أي : فهمت غرض المتكلم منه . وكذلك قال في " المحصول " : الفقه في اللغة : عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه .
وقوله : " أي ما نفهم ولا تفهمون " هو تفسير لمعنى الفقه في الآيتين ، لأنه ذكرهما متواليتين ، ثم ذكر تفسيرهما متواليا ، وهو يسمى اللف والنشر ، فتقديره : ما نفقه كثيرا ، أي ما نفهم ، ولكن لا تفقهون أي : لا تفهمون . ومثله في اللف والنشر قوله سبحانه [ ص: 131 ] وتعالى : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ القصص : 73 ] ، أي : جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، والنهار لتبتغوا من فضله .
واعلم أن المصنفين اختلفوا في معنى الفقه من حيث اللغة ، فقال nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي nindex.php?page=showalam&ids=14552والآمدي وابن الصيقل من أصحابنا : هو العلم والفهم . يقال : فلان يفقه الخير والشر ، ويفقه كلام فلان ، أي : يفهمه ويعلمه .
وقال القاضي في " العدة " : الفقه في اللغة : العلم ، ثم ذكر المثال المذكور قبل .
قال : وذكر ابن قتيبة أن الفقه في اللغة : الفهم .
وقال القرافي : الفقه : هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة ، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف ، وحكاه عن المازري في " شرح البرهان " .
قلت : كل ذلك له أصل في اللغة ، فقد قال ابن فارس في " المجمل " : الفقه العلم ، وكل علم بشيء فهو فقه .
غير أن الجوهري لم يذكر غير أن الفقه الفهم ، وهو الأكثر المشهور ، ولا شك أن بين الفهم والعلم ملازمة ، إذ الفهم يستلزم علم المعنى المفهوم ، والعلم يستلزم فهم الشيء المعلوم ، فيشبه أن من سمى الفقه علما تجوز في ذلك لهذه الملازمة ، وعلى هذا يحمل ما ذكره الجوهري في ( فهم ) : فهمت الشيء فهما ، علمته ، إذ لو كان الفهم العلم حقيقة مع قوله : الفقه الفهم ، لكان الفقه هو العلم ، فكان تفسيره به بدون واسطة الفهم أولى لأنه أشهر .
ومما يدل على تغاير الفقه والفهم ، أن الفقه يتعلق بالمعاني دون الأعيان ، والعلم [ ص: 132 ] يتعلق بهما ، فيصح أن يقال : علمت معنى كلامه ، وعلمت السماء والأرض ، وتقول : فقهت معنى الكلام وفهمته ، ولا يقال : فقهت السماء والأرض .
وحكى القرافي عن nindex.php?page=showalam&ids=11815أبي إسحاق الشيرازي - ولم أجده في " اللمع " ، فلعله في غيره أو في غير مظنته - : أن الفقه في اللغة إدراك الأشياء الخفية ، فلذلك تقول : فهمت كلامك ، ولا تقول : فهمت السماء والأرض . وهذا يقتضي أن الفقه أخص من العلم ، فهذا اختلافهما بحسب متعلقهما .
وأما بحسب حدهما ، فالعلم قد علم حده بما مر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
والفهم ، قال ابن عقيل في " الواضح " : هو إدراك معنى الكلام بسرعة . قلت أنا : ولا حاجة لقيد السرعة ، لأن من سمع كلاما ولم يدرك معناه إلا بعد شهر ، أو أكثر ، قيل : قد فهمه ، ولذلك يقال : الفهم إما بطيء أو سريع ، فينقسم إليهما ومورد القسمة مشترك بين الأقسام ، نعم ، السرعة قيد في الفهم الجيد .
فقد تحقق بما ذكرته ، أن الفقه هو الفهم ، يقال : فقه بكسر القاف : إذا صار فقيها ، وفقه غيره ، بفتحها : إذا غلبه في الفقه وترجح عليه ، وفقه ، بضمها - : إذا صار الفقه له سجية وخلقا وملكة .