[ ص: 639 ] وإن اتحدا حكما لا سببا ، كرقبة مؤمنة في كفارة القتل ، ورقبة مطلقة في الظهار ، فكذلك عند القاضي ، والمالكية . وبعض الشافعية ، وخالف بعضهم وأكثر الحنفية ، وأبو إسحاق بن شاقلا .
وقال أبو الخطاب : إن عضده قياس ، حمل عليه كتخصيص العام بالقياس ، وإلا فلا ، ولعله أولى .
النافي : لعل إطلاق الشارع وتقييده لتفاوت الحكمين في الرتبة عنده ; فتسويتنا بينهما عكس مقصوده .
المثبت : عادة العرب الإطلاق في موضع والتقييد في آخر .
وقد علم من الشرع بناء قواعده بعضها على بعض من تخصيص العام وتبيين المجمل ; فكذا هاهنا .
ولأنه قد قيد : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) [ البقرة : 282 ] ، بـ ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) [ الطلاق : 2 ] ، فإن اختلف الحكم ; فلا حمل ، كتقييد الصوم بالتتابع ، وإطلاق الإطعام ، إذ شرط الإلحاق اتحاده . ومتى اجتمع مطلق ، ومقيدان متضادان ، حمل على أشبههما به .
قوله : " وإن اتحدا حكما لا سببا " ، هذا هو القسم الثاني من أقسام المطلق والمقيد ، وهو أن يختلف سببهما ويتحد حكمهما ، كعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل ، وعتق رقبة مطلقة في كفارة الظهار ، كما ورد في الآيتين : ( فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) [ النساء : 92 ] ، ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) [ المجادلة : 3 ] ، فسببهما مختلف وهو الظهار والقتل ، وحكمهما متحد ، وهو عتق الرقبة ; فحكمه كذلك ، أي : [ ص: 640 ] يحمل المطلق على المقيد " عند القاضي ، والمالكية ، وبعض الشافعية . وخالف بعضهم " ، أي : بعض الشافعية ، " وأكثر الحنفية ، وأبو إسحاق بن شاقلا " من أصحابنا ; فقالوا : لا يحمل المطلق على المقيد هاهنا ، وقد روي عن أحمد رحمه الله ما يدل على هذا أيضا .
" وقال أبو الخطاب : إن عضده قياس ، حمل عليه ، كتخصيص العام بالقياس " .
معنى هذا الكلام أن يحمل المطلق على المقيد ، إن وافقه قياس دل عليه ، قياسا على تخصيص العام بالقياس الخاص ، كما سبق ، وإن لم يوافقه قياس ، لم يحمل المطلق على المقيد .
قلت : هذا الذي فهمت من كلام الشيخ أبي محمد ، وكلامه في ذلك مضطرب ; لأنه قال : وقال أبو الخطاب : يبنى عليه ، أي : يبنى المطلق على المقيد من جهة القياس ; لأن تقييد المطلق كتخصيص العموم ، وذلك جائز بالقياس الخاص .
قلت : فتعليله في آخر هذا الكلام ، يدل على ما قلت ، وفهمت من كلامه ، وهو أن حمل المطلق على المقيد هاهنا يحتاج إلى قياس عاضد ، موافق له ، كما أن تخصيص العام يحتاج إلى قياس مخصص ، لكن صدر كلامه وهو قوله : يبنى المطلق على المقيد من جهة القياس ، يحتمل ما فهمته من كلامه ، و يحتمل أن المطلق يحمل على المقيد بطريق القياس ، وهو قياس صورة الإطلاق ، على صورة التقييد ، بجامع القدر المشترك بينهما ، من اتحاد [ ص: 641 ] الحكم ، لا من جهة أن المتكلم أراد بالإطلاق ما دل عليه التقييد .
قلت : وعلى هذين الاحتمالين يترتب في الحكم خلاف ; لأن بتقدير الاحتمال الأول ، إن وجد قياس يدل على حمل المطلق على المقيد حمل ، وإلا فلا ; فحمله عليه في حال من حالين ، وعلى تقدير من تقديرين .
وعلى الاحتمال الثاني يحمل عليه ولا بد ، لكن مستند الحمل عليه هل هو القياس أو قيام الدليل على إرادة المتكلم بمطلق كلامه مقيدة ; فافهم هذا .
- قوله : " ولعله أولى " ، أي : قول أبي الخطاب ، إن عضده قياس ، حمل عليه ، وإلا فلا ، يقرب أن يكون أولى من الخلاف المرسل ، بالنفي والإثبات المطلق ، وذلك لأن من أثبت حمل المطلق على المقيد ، نظر إلى اتحاد الحكم ، ومن نفاه ، نظر إلى اختلاف السبب ، وكلا النظرين ليس كافيا في مستند الحمل وعدمه ، فإذا وجد قياس موافق لحمل المطلق على المقيد ، قوي مستنده ; فصلح أن يثبت به ، وإن لم يوجد قياس موافق له ، لم يحمل عليه ، استصحابا للحال في ذلك ، إذ الأصل عدم جوازه .
[ ص: 642 ] - قوله : " النافي " لحمل المطلق على المقيد ، إذا اختلف سببهما ، أي : احتج النافي بأن قال : " لعل إطلاق الشارع " الحكم في موضع ، " وتقييده " في آخر ، " لتفاوت الحكمين في الرتبة عنده " مثل أن يعلم أن المعصية في الظهار أخف منها في القتل ; فلذلك لم يقيد فيه الرقبة بالإيمان ، تغليظا على المكلف في الأغلظ ، وتخفيفا عنه في الأخف ، مناسبة منه وعدلا ; " فتسويتنا بينهما " ، بحمل المطلق على المقيد ، عكس مقصود الشارع إظهار تفاوت الحكمين ، وإن احتمل وجود المانع من الحمل وعدمه . والأصل عدم جوازه ، وجب أن يستصحب فيه حال عدم الجواز ، ولا يقدم على ما يحتمل الإفضاء إلى عكس مقصود الشارع .
- قوله : " المثبت " ، أي : احتج المثبت لحمل المطلق على المقيد ، بوجوه :
- أحدها : أن عادة العرب في لغتها إطلاق الكلام في موضع ، وتقييده في آخر ، والقرآن والسنة واردان بلغة العرب ; فيحمل أمرهما على عادة العرب في لغتها ، ويحمل المطلق منهما على المقيد .
الوجه الثاني : أنه " قد علم من الشرع بناء قواعده بعضها على بعض " ، كتخصيص العام بالخاص ، وتبيين المجمل بالمبين " فكذا هاهنا " ، يحمل المطلق على المقيد ; لأنه منه ، أي : لأن المطلق من قبيل المجمل ، لاحتماله أمرين فأكثر ، كالرقبة التي تحتمل الإيمان والكفر ; فتحمل على المقيد ; لأنه كالمبين بل هو مبين على التحقيق ، بما اختص به من التقييد ، أو يكون معنى قوله : لأنه منه ، أن المطلق والمقيد من جملة قواعد الشرع ، التي ينبغي بناء [ ص: 643 ] بعضها على بعض . وقد شذ عني الآن ما أردت به عند الاختصار ، لكن المراد به لا يخرج عن المعنيين المذكورين .
الوجه الثالث : أن حمل المطلق على المقيد قد وقع في الشرع ، واتفقنا على وجوبه ، حيث قيدنا مطلق قوله تعالى في المداينة : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) [ البقرة : 282 ] ، بقوله تعالى في المراجعة : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) [ الطلاق : 2 ] ، وحيث وجب في هذه الصورة ; فليجب في نظائرها ، إذ حكم الأمثال واحد .
قلت : مأخذ الخلاف هاهنا : أن إطلاق المتكلم في موضع ، وتقييده في آخر ، هل هو ظاهر في إرادته تقييد المطلق ، بناء على ما ذكر من قاعدة أهل اللغة ، وأنهم يطلقون في موضع اتكالا على ما قيدوه في غيره ، أو هو ظاهر في عدم إرادته التقييد ، بناء على أنه لو أراد التقييد ، لقيد ، وهو استدلال يقرب من دلالة مفهوم المخالفة ; لأن القائل يقول : لما قيد الرقبة في القتل ، دون الظهار ، دل على أنه لم يشترط فيها الإيمان ، وإلا لقيد فيها ، كما قيد في القتل . وهو في الحقيقة استدلال بالسكوت عن تقييد المطلق ، وفيه ما فيه ، والبحث متقابل من الطرفين .
قوله : " فإن اختلف الحكم ; فلا حمل " ، إلى آخره .
هذا هو القسم الثالث من أقسام حمل المطلق على المقيد ، وهو أن [ ص: 644 ] يختلف حكمهما ; فلا يحمل أحدهما على الآخر ، سواء اتفق سببهما ، أو اختلف ، كتقييد الصوم بالتتابع في كفارة اليمين ، وإطلاق الإطعام فيها ، فإن سببهما واحد وهو كفارة اليمين ، و حكمهما مختلف ، وهو الصوم والإطعام .
ومثال اختلاف السبب والحكم تقييد الصوم بالتتابع في كفارة اليمين ، وإطلاق الإطعام في كفارة الظهار ، أو فدية الصوم ; فلا يحمل أحدهما على الآخر ; لأن شرط إلحاق أحدهما بالآخر اتحاده ، أي : اتحاد الحكم ، وهو هاهنا مختلف ; فينتفي الإلحاق لانتفاء شرطه .
وإنما قلنا : إن شرط الإلحاق اتحاد الحكم ; لأن المطلق والمقيد لما كان حكمهما بالنظر إلى كل منهما بانفراده مختلفا ، كان فائدة حمل أحدهما على الآخر اتحاد الحكم ، والتخلص من تعدده وتعارضه ، اللذين هما على خلاف الأصل ، وإذا كان حكمهما مختلفا بالنص ، انتفت الفائدة المذكورة ; فامتنع الإلحاق .
وقد بان بقولنا : إن الحكم إذا اختلف ، امتنع الإلحاق ، سواء اتفق السبب أو اختلف ، أن أقسام حمل المطلق على المقيد أربعة ; لأن السبب والحكم ; إما أن يتفقا أو يختلفا ، أو يتفق الحكم ويختلف السبب ، أو يختلف الحكم ويتفق السبب ، وقد بانت أمثلتها ، وهذه أصح وأضبط من القسمة المذكورة قبل ، وإن كان الموجب لها أن ظاهر الأقسام في " المختصر " ثلاثة ، وإن كان الثالث ، وهو ما إذا اختلف الحكم ، يتضمن الرابع بتقدير اتفاق السبب واختلافه ; فاعلم ذلك .
[ ص: 645 ] قوله : " ومتى اجتمع مطلق ومقيدان متضادان ، حمل " ، يعني المطلق " على أشبههما به " ، يعني يحمل على ما هو أشبه به من المقيدين المتضادين ، وهذا تفريع على القول بحمل المطلق على المقيد ، في صورة يتجه فيها ذلك ، كما إذا اتفق الحكم والسبب ، أو الحكم وحده ، وذلك لأنا : إما أن نحمله عليهما جميعا ; فيلزم التضاد ، كالصوم ، هو في كفارة الظهار مقيد بالتتابع ، وفي متعة الحج مقيد بالتفريق ; فلو حملنا الصوم في كفارة اليمين عليهما ، وهو مطلق ، لزم أن يجب فيه التتابع والتفريق معا ، وهو محال ، أو لا نحمله على واحد منهما ; فتبطل قاعدة إلحاق المطلق بالمقيد ، والتقدير أن هذا تفريع عليه ، أو نحمله على أحدهما اعتباطا ، بحسب الاختيار ، من غير اجتهاد ; فيكون ترجيحا بلا مرجح .
وإذا انتفت هذه الأقسام ، تعين ما قلناه ، وهو حمله على الأشبه به منهما ، بطريق النظر لا اجتهاد .
ومثاله الأصح : أن غسل الأيدي في الوضوء ، ورد مقيدا بالمرافق ، وقطعها في السرقة مقيد بالكوع بالإجماع ، ومسحها في التيمم ورد مطلقا ; فهل يلحق بالقطع في تقييده بالكوع ، أو بالغسل في تقييده بالمرافق ؟ ولهذا خرج الخلاف فيه .
أما تردد صوم كفارة اليمين بين صوم الظهار والحج ; فمثال ذكره الشيخ أبو محمد ، وفيه نظر ; لأن الصوم في كفارة اليمين ما ورد عن الشرع إلا مقيدا بالتتابع ، بناء على أن العمل بقراءة nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " [ ص: 646 ] وأنها إما قرآن ، أو خبر ، كما سبق . نعم يصح تمثيل الشيخ أبي محمد به ، بناء على قول من لا يرى التتابع فيه ، وضرب الأمثلة في أصول الفقه لا يختص بمذهب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .